Translate الترجمة

الأربعاء، 9 فبراير 2022

تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/تصدير


تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/تصدير,[2]تصدير  من ويكي
 {قلت المدون هذه المذاهب كلها باطلة الا ما وافق القران وانما اوردت تاريخها لمجرد التعرف علي جماجم البشر بما يحتويه فكرهم وهم بعيدين عن الهدي الالهي}
 
لسنا بحاجة إلى كثير شرح لنبين خطر الفلسفة اليونانية في تاريخ الفكر؛ فقد يكفي أن نذكر أنها فلسفة الشرق الأدنى منذ فتوح الإسكندر، وأنها فلسفة الغرب منذ استولى الرومان على بلاد اليونان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، فعرفوا نبوغ المغلوبين وأخذوا عنهم أسباب الحضارة المادية والعقلية ومنها الفلسفة، واصطنع المفكرون المسيحيون هذه الفلسفة ثم اصطنعها المفكرون المسلمون، ودخلت المدارس في الشرق والغرب فكونت العقول وهيمنت على وضع العلوم.
أجل لقد وجد العقل مع الإنسان وبقي هو هو في جوهره، واستخدمته الأمم الشرقية في الماضي السحيق فاستحدثت الصناعات والعلوم والفنون ولقنتها لليونان، فأغنتهم عن بذل الجهد والوقت في استكشافها بأنفسهم، وفضلًا عن الفنون والعلوم نجد عند الأمم الشرقية القديمة قصصًا دينية وأفكارًا في العالم والحياة إذا اعتبرنا موضوعها ومغزاها رأيناها حقيقة بأن تُسَمَّى فلسفية؛ فقد نظروا في أسمى المسائل مثل الوجود والتغير والخير والشر والأصل والمصير، فكان التوحيد والشرك، وكانت الثنائية الفارسية، وكانت وحدة الوجود عند الهنود، وكان غير ذلك، ولم تخرج الفلسفة فيما بعد عن هذه النظريات الكبرى، بل قد نستطيع أن نجد لكل فكرة يونانية مثيلة شرقية تقدمتها أو أصلًا قد تكون نبتت منه.
غير أنا إذا لحظنا صيغة القول ومنهج البحث عند الشرقيين لم نَدْعُ هذا [3]الضرب من المعرفة والتفكير علمًا وفلسفة، بل دعوناه ما قبل العلم والفلسفة؛ فإن علومهم جميعًا من حساب وهندسة وفلك وغيرها لم تكن تعدو ملاحظات تجريبية أدت إليها حاجات عملية، وفيها تعثر وتردد يدلان على أنه لم يكن لدى أصحابها أية فكرة عامة عن المبادئ والعلل والبرهان، هذا رأي العلماء المحدثين[1] بل هذا رأي عالمنا الكبير البيروني[2] الذي وعى العلم القديم كله، وخبر الهند، ووقف على «مقولاتها» فهو يقول: «وكانوا (أي الهنود) يعترفون لليونانيين بأن ما أعطوه من العلم أرجح من نصيبهم منه … كنت أقف من منجميهم مقام التلميذ من الأستاذ؛ لعجمتي فيما بينهم، وقصوري عما هم فيه من مواضعاتهم، فلما اهتديت قليلًا لها أخذت أوقفهم على العلل وأشير إلى شيء من البراهين، وألوح لهم الطرق الحقيقية في الحسابات فانثالوا عليَّ متعجبين وعلى الاستفادة متهافتين … فكادوا ينسبونني إلى السحر … أقول: إن اليونانيين … كانوا على مثل ما عليه الهنود من العقيدة … «ولكنهم» فازوا بالفلاسفة … نقحوا لهم الأصول … ولم يَكُ للهند أمثالهم ممن يهذب العلوم، فلا تكاد تجد لذلك لهم خاص كلام إلا في غاية الاضطراب وسوء النظام … إني ما أشبه ما في كتبهم من الحساب ونوع التعاليم إلا بصدف مخلوط بخزف … والجنسان عندهم سيان؛ إذ لا مثال لهم لمعارج البرهان».
أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني (٣٥١–٤٤٠ه/٩٦٢–١٠٤٨م) في كتابه «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» ص١٢-١٣ طبع ليبسيك ١٩٢٥.
تصنيف:
تاريخ الفلسفة اليونانية
======
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/تنبيهات

تنبيهات
١ — قسمنا الكتاب إلى أبواب، والباب إلى فصول، والفصل إلى أعداد، والعدد إلى فقرات، وجعلنا الأعداد مسلسلة، ورقمنا الفقرات في كل عدد بالأحرف الأبجدية، فإذا أردنا إحالة القارئ إلى موضع من الكتاب ذكرنا بين قوسين العدد والفقرة، مثلًا (٣٢–ب).
٢ — رسمنا الأعلام اليونانية كما وردت في الكتب العربية أو على نسقها إلا القليل منها؛ اختصارًا، أو محافظة على الأصل، أما الاختصار فبحذف حرف السين الأخير وهو في اليونانية علامة من علامات «الإعراب» وليس جزءًا من الاسم، وإثباته غير مطرد عند العرب بدليل قولهم: سقراط وأفلاطون مثلًا، وأما المحافظة على الأصل فباستبقاء حرف p باء بدل قلبه فاء، وإنما حدث هذا القلب عن طريق الترجمات السريانية من اليونانية، وفي الخط السرياني يرمز بحرف واحد إلى حرفي باء وفاء فتعذر على الناقلين من السريانية إلى العربية تمييز ذينك الحرفين، أما العرب أنفسهم فلم يصطلحوا أبدًا على وضع الفاء مكان p اليونانية، وإنما أشاروا إليها بالباء (نلينو: علم الفلك، تاريخه عند العرب ص٢٢٦)، وعلى ذلك فقد كتبنا فيثاغورس وأفلاطون وفوروفوريوس … لشهرتها، ولكنا قلنا بارمنيدس وأنبادوقليس وأبيقورس …
٣ — جرت العادة في الإحالة إلى أقوال أفلاطون باعتماد طبعة Henri Estienne (ليون ١٥٧٨) وصفحاتها مقسمة خمسة أقسام يدل عليها بالأحرف a b c d e؛ لتسهيل الرجوع إلى الموضع المقصود، ومعظم الطبعات الجزئية والترجمات الحديثة تشير في هوامشها إلى هاته الصفحات وأقسامها فرأينا أن نتبع هذا الاصطلاح مع استبدال الأحرف الأبجدية أ ب ج د ه بالأحرف الإفرنجية فنكتب مثلًا: الجمهورية ص٤٤٠ (ب) في مقابل: Rep. 440 b.
(٤) — أما أقوال أرسطو فيحال فيها إلى طبعة أكاديمية برلين وصفحاتها مقسمة إلى عامودين يدل عليهما بحرفي b وa وفي كل عامود السطور مرقومة فيذكر مثلًا De Anima 429 b 10–24 ونكتب نحن: كتاب النفس ص٤٢٩ ع ب س١٠–٢٤؛ أي صفحة ٤٢٩ عامود ب سطر ١٠–٢٤، أو نكتفي بذكر اسم الكتاب ورقم المقالة والفصل؛ فإن كتبه مقسمة إلى مقالات، وهذه إلى فصول.
===
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/مقدمة  
   مقدمة
المؤلف: يوسف كرمالباب الأول: نشأة العلم والفلسفة
[1]

مقدمة
الفكر اليوناني قبل الفلسفة
١— العالم اليوناني:
أ — كان اليونان يعتقدون أنهم أصيلون في جزيرتهم؛ والحقيقة أنهم جاءوها من آسيا، فهم آريون أو هنديون أوروبيون، وكانوا يدعون سكان بلادهم الأولين بالبلاجيين ويدعون أنفسهم بالهلاَّ نيين، وكانوا أربع قبائل كبرى مختلفة خَلقًا ولهجة: الأيوليون والدوريون في الشمال، والأخيون والأيونيون في بلوبونيسيا (المورة الآن) ولكن هذا التقسيم اضطرب في القرن الثاني عشر قبل الميلاد؛ إذ أغار أهل تساليا على شمال اليونان فهاجر الأيوليون إلى آسيا واحتلوا لسبوس أكبر جزر الشاطئ الآسيوي، واحتلوا هذا الشاطئ من الدردنيل إلى خليج أزمير فسمِّ يت هذه المنطقة أيولية، أما الدوريون فهبطوا المورة وأخضعوا الأخيين، وتهدَّدوا الأيونيين؛ فجلا هؤلاء فريق منهم صعد إلى الأتيك في شمال المورة إلى الشرق وفريق أبحر إلى آسيا فاحتل جزيرتي خيوس وساموس والشاطئ الآسيوي من أزمير إلى نهر مياندر؛ فعرفت هذه المنطقة باسم أيونية وقامت فيها مدن شهيرة؛ أهمها: أزمير (اغتصبوها من الأيوليين) وأفسوس وملطية، ولم يقتصر الدوريون على فتح المورة، بل استعمروا الجزر الممتدة من [2]قيثارة في جنوب المورة إلى رودس عند الشاطئ الآسيوي وقسمًا من هذا الشاطئ إلى جنوب أيونية، وسمي هذا القسم بالدورية.
ب — وفي القرنين الثامن والسابع نشبت حروب أهلية بين الشعب والأشراف انتهت في أثينا واسبرطة بديموقراطية مقيدة نظمها في الأولى دستور سولون، وفي الثانية دستور ليقورغ، أما في غيرهما من المدن فكانت الحظوظ متباينة واضطر المغلوبون للهجرة، ولكنهم لم يذهبوا شرقًا في هذه المرة بل قصدوا إلى مناطق ثلاث: فمنهم من صعد إلى الشمال فحل شواطئ تراقية وخلقيدية؛ أي الروملي الحالية، ومنهم من سافر إلى الغرب فاستعمر إيطاليا الجنوبية (وقد سماها الرومان لذلك اليونان الكبرى) وصقلية، والأندلس، وجنوب فرنسا؛ حيث أنشئوا مرسيليا، ومنهم من يمم الجنوب فنزل قبرس ومصر وشمال أفريقيا، وفي هذا العصر بنى بعض الدوريين مدينتين على ضفتي البوسفور: إحداهما على الضفة الشرقية هي: خلقيدونية (أشقودرة) والأخرى على الضفة الغربية هي: بيزنطية (استانبول).
ج — وكانت هذه المدن والمستعمرات المنتشرة في البحر المتوسط من الشرق إلى الغرب مستقلة في السياسة والإدارة، ولكنها كانت تؤلف عالمًا واحدًا هو العالم اليوناني تجمع بين أجزائه وحدة الجنس واللغة والدين، فكانوا كلهم يعبدون تزوس ويحجون إلى معبده الأكبر في أولمبية بالمورة، كما كانوا يأتون دلف في سفح جبل برناس يستنزلون وحي أبولون ويبعثون بالمندوبين في الأعياد الكبرى يحملونهم التقدمات والقرابين، وكانت تلك الأعياد أزمنة حرمًا توقف فيها الحروب، وتقام الألعاب الرياضية وأسواق الأدب والفن، فينشد الشعراء، ويغني المغنون، ويعرض المصورون والمثالون آياتهم، والمهاجرون يشاركون في كل ذلك فكان هذا الاتصال المستمر بالوطن الأول، وتلاقى الجميع في آجال معينة وتبادل [3]الأفكار والسلع عاملاً قويٍّا في إنضاج الحضارة اليونانية على النحو الذي جعلها فذة في التاريخ، ويرجع الفضل الأكبر فيها للمستعمريين بالإجمال، وللأيونيين منهم بنوع خاص، فإن مخالطتهم للأمم الأجنبية قوت نسلهم، ووسعت مداركهم وحررت عقولهم، وكان الأيونيون أنجب اليونان، جاوروا الأمم الشرقية فانتفعوا بعلومها واصطنعوا وسائل مدنيتها؛ فكانت بلادهم مهد الثقافة اليونانية فيها نظمت القصائد الهوميرية؛ ومنها خرج العلم والفلسفة.
٢ — هوميروس:
أ — كان المعتقد إلى سبعين سنة خلت أن شعر هوميروس يمثل طفولة الفكر اليوناني، ومن ثَمة طفولة الإنسانية على تقدير أن تصور هوميروس من السذاجة بحيث يصح اعتباره أول مرحلة من مراحل العقل يحاول فهم الطبيعة وفهم نفسه، ولكن العلماء كشفوا سنة ١٨٧١، وما زالوا يكشفون عن آثار في شبه الجزيرة وفي بعض الجزر، وعلى الخصوص كريت عرفوا منها أن حضارة مادية عظيمة أزهرت في اليونان قبل هوميروس بثمانية قرون هي المذكورة في أساطيرهم، وفي وقائع طروادة إلى أن دمرها الدوريون في إغارتهم المشهورة حوالي سنة ١١٠٠ وأيقنوا أن الحياة التي يصفها الشعر الهوميري بما فيها من غنى وقوة وفن وترف وليدة تطور قديم، على أن أقدم ما وصل إلينا من شواهد الفكر اليوناني الإلياذة والأوذيسيه وهما تنسبان لهوميروس منذ زمن بعيد، إلا أن الشك قديم في حقيقته وفي نسبة القصتين جميعًا لشاعر واحد، ولقد أثبت النقاد المتأخرون أن كليهما مجموعة قصائد لشعراء مختلفين في موضوع واحد مما يحدو للظن أن النسبة أتت من أن هوميروس كان واحد من أولئك الشعراء وكان أشهرهم، أو أنه كان أحدثهم عهدًا؛ حفظها وأنشدها فنسبت إليه باعتباره الجامع لها فإن اسمه [4]يعني «المنسِّق»، ويرد النقاد الإلياذة إلى القرن التاسع، والأوذيسيه إلى آخر هذا القرن التاسع والنصف الأول من القرن الثامن، فإذا حكمنا على هذا العصر بالقصائد الهوميرية وضعناه في مرتبة دنيئة من مراتب الفكر؛ لما نجد فيها من سذاجة في تصور الطبيعة والإنسان، ومن إسراف في تأنيس الآلهة واستهتار بالأخلاق ليس له مثيل.
ب — أما الطبيعة فهي عند هوميروس حية مريدة وقد يكون هذا متابعة للتصور المعبر عنه بالبدائي كما يريد بعض المؤلفين، ولكنه على أي حال مألوف في الشعر إلى أيامنا، فلا غرابة في قوله مثلاً : إن نهر زونتوس استشاط غضبًا؛ لأن أخيل ملأه بالجثث — ولا في تشخيصه الليل والظلمات والموت والنوم والحب والشهوة والعماية — بل لا غرابة في تأليهه الأرض، وقوله: إنها ولدت الجبال الشاهقة والسماء المزدانة بالكواكب، ثم تزوجت من السماء المحيطة بها من كل جانب فولدت أقيانوس والأنهار، وأن أقيانوس المصدر الأول للأشياء، فعندنا أن الأساطير القديمة في جملتها رموز تخفي وراءها مقاصد علمية إذا ترجمناها إلى لغتنا المعهودة بدت واضحة مقبولة، وأخطر من ذلك تصور الآلهة والمبادئ الخلقية، فالآلهة في قمة الأولمب يؤلفون حكومة ملكية على رأسها تزوس ويجيء من بعده سائر الآلهة والإلهات وكلهم في صورة بشرية، إلا أن سائلاً عجيبًا يجري في عروقهم فيكفل لهم الخلود، وهم أقوى من الأبطال وأسرع حركة، يظهرون للناس أو يختفون كما يشاءون، يسكنون قصورًا في السماء فخمة يقضون فيها حياة ناعمة في ربيع مقيم يأكلون ويشربون ويتزاوجون، تجرحهم السهام والرماح فيألمون وينتحبون، وهم حادثون، وجدوا في الزمان، وما يزالون خاضعين لتعاقب الأيام، وهم على مثل هذا النقص من الناحية الخلقية لهم شهواتهم وعصبياتهم، يتفرقون أحزابًا ويتدخلون في منازعات البشر، يؤيد بعضهم اليونان، ويناصر [5]البعض الآخر أهل طروادة، يتشاتمون ويتضاربون، يخونون ويغدرون، لا يرعون من البشر إلا من يتقرب إليهم كيفما كانت أخلاقه، ويذهبون في رعايتهم إلى حد أن يهبوا مختاريهم التوفيق في الخديعة أو المهارة في السرقة، لا يحفلون بعدل أو بظلم إلا فيما ندر، ولا يُعتد كثيرًا بما ورد في الأوذيسيه من إشارات خلقية ومن ذكر عدالة تزوس؛ فإن فيها أيضًا تسليمًا بالقدر يقضي به الآلهة على البشر دون اعتبار لقيمة أفعالهم، بل إن القدر يسخر من الفضيلة ويعبث بالإرادة الصالحة، وأما الإنسان عند هوميروس ومعاصريه من اليونان فمركب من نفس وجسد، والجسد مكون من ماء وتراب ينحل إليهما بعد الموت، والنفس هواء لطيف متحد بالجسد متشكل بشكله ينطلق بالموت شبحًا دقيقًا لا يحسه الأحياء فينزل إلى مملكة الأموات في جوف الأرض وقد احتفظ بالشعور وفقد القدرة على العمل، فهو يألم لذلك ويقضي هناك حياة باهتة تافهة خير منها بألف مرة الحياة على وجه الأرض في ضوء النهار مهما تبلغ من البساطة والفقر، وليس في هذا العالم الآخر ثواب ولا عقاب إلا في النادر يوزعهما الآلهة بمثل ما يوزعون في الحياة الفانية من عدل معكوس فيحابون أصدقاءهم وينكلون بأعدائهم، وليست صداقتهم قائمة على الخير أو عداوتهم مسببة عن الشر.
ج — فنحن هنا في أحط درجات التشبيه وبإزاء أوقح أشكال الاستهتار نرى العاطفة الدينية ضعيفة إلى حد العدم، والمبادئ الخلقية مقلوبة رأسًا على عقب، ونظن السبب راجعًا إلى أن هذا الشعر كان ينشد في بلاط أمراء أيونية، وكان هؤلاء على جانب كبير من الغنى والترف، فلم يكن الشعراء يتغنون بغير ما يروقهم، فيصورون الحياة سهلة جميلة، والشهوة غلابة لا يقفها وازع، والقوة ممدوحة لذاتها لا يحدها حق، غير أن الأوذيسيه أكثر تقديرًا للفضائل؛ فهي بالإجمال تمجد الرجل الحكيم الشجاع الصبور، والزوجة الوفية، والابن البار،
===
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول
الطبيعيون الأولون
[9]
الباب الاول
نشأة العلم والفلسفة
٦ — تمهيــــد:
١— قلنا إن الدور الأول ينقسم إلى وقتين: ففي الوقت الأول نرى ثلاثة اتجاهات متعاصرة تمثل الوجهات الثلاث التي يمكن تبينها في الوجود، ويؤلف مجموعها الفلسفة الموضوعية: وهي الوجهة الطبيعية، والوجهة الرياضية، والوجهة الميتافيزيقية، فإن الفكر يتجه أولاً نحو الخارج ويطلب حقيقة الأشياء، فإما أن يستوقفه التغير وهو بالفعل أعم وأخطر ظاهرة في الطبيعة سواء أكان عرضيٍّا؛ وهو انقلاب الشيء من حال إلى حال، أو جوهريٍّا؛ وهو تحول الشيء إلى شيء آخر، كتحول الغذاء إلى جسم الحي، والخشب إلى الرماد، فيدرك أن الأجسام المختلفة مصنوعة من مادة أولى هي محل التغيرات؛ فيبحث عن هذه المادة التي تتكوَّ ن منها الأجسام ثم تعود إليها وتبقى هي هي تحت التغيرات المتنوعة المتعاقبة، وإما أن يعنى بما في تركيب الأجسام من نظام وفي أفعالها من اطراد، ويعلم أن النظام في العدد فيتصور الأشياء تصورًا رياضيٍّا، وإما أن يستعصي عليه تفسير التغير فينكره ويقول بالوجود الثابت.
فالوجهة الأولى أخذ بها طاليس، وأنكسيمندريس، وأنكسيمانس، وهرقليطس: نشأ الثلاثة الأول في ملطية، والرابع في أفسوس، وكانتا في مقدمة المدن الأيونية عمرانًا وثقافة، ولكن الفرس أغاروا على أيونية وأخضعوها منذ سنة ٥٤٦، ودمروا ملطية سنة ٤٩٤ فانتقلت [10]الحياة العقلية إلى إيطاليا الجنوبية وصقلية؛ حيث نبغ فيثاغورس، وهو صاحب الوجهة الرياضية، وظهرت المدرسة الإيلية القائلة بالوجود الثابت، ثم نشأ فلاسفة حاولوا التوفيق بين الوجهات الثلاث هم: أنبادوقليس، وديموقريطس، وأنكساغورس.
ب — وفي الوقت الثاني اجتاز العقل اليوناني أزمة عصيبة، هي أزمة السوفسطائية؛ كان مركزها أثينا بعد حروب اليونان والفرس في أيام بركليس المتوفى سنة ٤٢٩، تشكك السوفسطائيون في العقل وفي مبادئ الأخلاق، وحاربهم سقراط والتف حوله تلاميذ؛ فخاضوا كلهم مسائل منطقية وخلقية كونت مواد الفلسفة الذاتية، فكان هذا التطور متطابقًا للتطور الطبيعي في الفرد ينظر أولاً إلى الخارج، ولا يتجه إلى الداخل إلا فيما بعد، وقد ضاعت كتب رجال هذا الدور جميعًا، ونحن نعرفهم مما يذكره عنهم أفلاطون وأرسطو، ومن أخبار دُوِّ نت في عهد متأخر، ومن عبارات لهم جمعت من مختلف الكتاب القدماء، وإليك جدولاً بأسمائهم وتواريخهم (وكلها تقريبية):  [11]
طاليس ٥٤٦–٦٢٤
أنكسيمندريس ٥٤٧–٦١٠
أنكسيمانس ٥٢٤–٥٨٨ فيثاغورس ٤٩٧–٥٨٢
أكسانوفان –٥٧٠؟
هرقليطس ٤٧٥–٥٤٠ بارمنيدس –٥٤٠؟
أنكساغورس ٤٢٨–٥٠٠
زينون –٤٨٧؟ أنبادوقليس ٤٣٣–٤٩٣
ديموقريطس ٣٦١–٤٧٠
بروتاغوراس ٤١٠–٤٨٠
غورغياس ؟٣٧٥–
سقراط ٣٩٩–٤٦٩
مليسوس –٤٤٠؟
==========
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/الطبيعيون الأولون 
   الطبيعيون الأولون نشأة العلم والفلسفة
المؤلف: يوسف كرمالفيثاغوريون
[12]
الفصل الأول
الطبيعيون الأولون
٧ — طاليس
أ — هو أحد الحكماء السبعة انفرد بالعناية بالعلم وكانوا يعنون بالسياسة والأخلاق، جال أنحاء الشرق وتبحر في العلوم، ومما يذكر عنه أنه عمل كمهندس حربي في خدمة قارون — آخر ملوك ليديا في آسيا الصغرى — وبرهن على أن الزوايا المرسومة في نصف الدائرة فهي قائمة، وكان يحسب من فوق برج أبعاد السفن في البحر، وأنبأ بكسوف الشمس الكلي الذي وقع في ٢٨ مايو سنة ٥٨٥ ووضع تقويمًا للملاحين من أهل وطنه ضمنه إرشادات فلكية وجوية منها: أن الدب الأصغر أدق الكواكب دلالة على الشمال، ولما جاء مصر أخذ علم المساحة وشغل بمسألة فيضان النيل، ودل أساتذته المصريين على طريقة لقياس ارتفاع الأهرام وكانوا قد تعبوا في البحث عنها فنبههم إلى أنه في الوقت الذي يكون فيه ظل الشيء مساويًا لمقداره الحقيقي، فإن طول ظل الأهرام هو مقدار ارتفاعها، وأن النسبة تبقى محفوظة بين طول الظل وارتفاع الشيء في أي وقت من النهار.
ب — أما أثره في الفلسفة فهو أنه وضع المسألة الطبيعية وضعًا نظريًّا بعد محاولات الشعراء واللاهوتيين فشق للفلسفة طريقها فبدأت باسمه، قال: إن الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء، وكان هذا القول مألوفًا عند الأقدمين وقد مرت بنا عبارة هوميروس أن أقيانوس المصدر الأول للأشياء، ومن قبل قالت أسطورة بابلية: «في البدء قبل أنْ تسمى السماء، وأن [13]يعرف للأرض اسم كان المحيط وكان البحر.» وجاء في قصة مصرية: «في البدء كان المحيط المظلم أو الماء الأول حيث كان أتون وحده الإله الأول صانع الآلهة والبر والأشياء.» وجاء في التوراة: «في البدء خلق الله السموات والأرض وكانت الأرض خاوية خالية وعلى وجه الغمر ظلام وروح الله يرف على وجه المياه.» ويعادل هذه الأقوال قول علمائنا الآن: إن تكوين العالم بدأ منذ أن تحولت الأبخرة الأولى ماء، ولكن طاليس يمتاز بأنه دعم رأيه بالدليل فقال[1]: إن النبات والحيوان يغتذي بالرطوبة، ومبدأ الرطوبة الماء، فما منه يغتذي الشيء يتكون منه بالضرورة، ثم إن النبات والحيوان يولد من الرطوبة، فإن الجراثيم الحية رطبة وما منه يولد الشيء فهو مكون منه، بل إن التراب يتكون من الماء ويطغى عليه شيئًا فشيئًا كما يشاهد في الدلتا المصرية وفي أنهر أيونية؛ حيث يتراكم الطمي عامًا بعد عام، وما يشاهد في هذه الأحوال الجزئية ينطبق على الأرض بالإجمال فإنها خرجت من الماء وصارت قرصًا طافيًا على وجهه كجزيرة كبرى في بحر عظيم وهي تستمد من هذا المحيط اللامتناهي العناصر الغاذية التي تفتقر إليها فالماء أصل الأشياء.
ج — وثَمة قول آخر يذكره له أرسطو هو «أن العالم مملوء بالآلهة»[2] ويغلب أن يكون معناه أنه مملوء بالأنفس؛ أي إن كل فعل إنما هو من النفس، وأن النفس منبثة في العالم أجمع فتكون المادة حية ويكون الماء المؤلفة منه الأشياء حاصلًا على قوة حيوية حاضرة فيه دائمًا وإن لم تظهر دائمًا، ويشترك في هذا الرأي الطبيعيون الأولون الذين نتكلم عنهم؛ لذلك دُعوا «هيلوزويست» أي أصحاب المادة الحية، ومما يؤيد هذا التأويل عبارة منسوبة لطاليس ويوردها [14]أرسطو بتحفظ[3] هي أن للحجر المغناطيسي نفسًا؛ لأنه يحرك الحديد فإنها تدل على أن مبدأ الفعل والحركة عنده النفس، ولما كانت الحركة ظاهرة كلية، كانت النفس كلية كذلك.
د — هذا كل ما نعلم عن طاليس ويتبين منه أنه تمثل العلم البابلي والمصري وعمل على تقدمه ولكنه استبقاه تجريبيًّا حتى أنبئُوه بالكسوف لم يكن صادرًا عن أساس نظري من حيث إنه كان يعتقد أن الأرض قرص مسطح، وأنه — على ما يذكر هيرودت — إنما أنبأ بكسوف تلك السنة فقط، ومن غير أن يعلم إن كان هذا الكسوف يرى في بقعة من الأرض معينة، فقد يكون اهتدى إليه اتفاقًا، وقد يكون اعتمد على جداول البابليين، أما فلسفته فهي على العكس شيء جديد، فبدل أن يفسر تنوع الكائنات بتشخيص القوى الطبيعية والرواية عن الآلهة نظر إليها على أنها أشياء معروفة محسوسة، وحاول الاستقراء والبرهنة فهذا النظر وهذا المنهج هما الربح الذي عاد على الفلسفة، أما قوله بالماء فقد كان آخر صدى للتقليد القديم ولم يتابعه فيه خلفاؤه ولكنهم فهموا أن وجهته ومنهجه أمران لهما قيمتهما الخاصة، وأنهما مستقلان عن كل قول معين.
— أنكسيمندريس
أ — هو تلميذ طاليس فيما يرجح وخليفته في ملطية، يذكرون عن مشاركته الشخصية في تقدم العلم أمورًا كثير منها لم يثبت، فيقولون مثلًا: إنه اخترع المزولة، والأرجح أنه أخذها عن البابليين؛ إذ قد كانت معروفة عندهم، وأنه صنع كرة فلكية ووضع خريطة أرضية؛ استنادًا إلى المعلومات التي كان يأتي بها اليونان إلى ملطية من أنحاء العالم المعروف وقتذاك، فرسم الأرض تحيط ببحر ويحيط بها بحر.
[15]ب — ولكن المهم عندنا نظريته في العالم؛ فقد رأى أن الماء لا يصح أن يكون مبدأ؛ أولًا: لأنه استحالة الجامد إلى سائل بالحرارة «فالحار والبارد» (أي الجامد) سابقان عليه، ولأن المبدأ الأول لا يمكن أن يكون معينًا، وإلا لم نفهم أن أشياء متمايزة تتركب منه، فدعا المادة الأولى باللامتناهي وقال: إنها لا متناهية بمعنيين: من حيث الكيف أي لا معينة، ومن حيث الكم أي لا محدودة، هي مزيج من الأضداد جميعًا كالحار والبارد واليابس والرطب وغيرها، إلا أن هذه الأضداد كانت في البدء مختلطة متعادلة غير موجودة بالفعل من حيث هي كذلك، ثم انفصلت بحركة المادة وما زالت الحركة تفصل بعضها من بعض وتجمع بعضها مع بعض بمقادير متفاوتة حتى تألفت بهذا الاجتماع والانفصال الأجسام الطبيعية على اختلافها، وأول ما انفصل «الحار والبارد» فتصاعد البخار بفعل الحار وكان من هذا البخار الهواء، أما الراسب فيبس بالتدريج فكان منه البحر ثم الأرض، وتكون الحار كرة نارية حول الهواء كما تتكون القشرة حول الشجرة وتمزقت هذه الكرة النارية فتناثرت أجزاؤها، ودخلت أسطوانات هوائية مبططة هي الكواكب تشتعل فيها النار وتبدو لنا من فوهاتها، فكل ما نراه من وجوه القمر ومن كسوف وخسوف ناشئ إما من انسداد الفوهات انسدادًا كليًّا أو جزئيًّا، وإما مما للأسطوانات من حركة تجعل الفوهات تبدو حينًا وتغيب حينًا آخر، والأرض جسم أسطواني كذلك نسبة ارتفاعه إلى عرضه كنسبة ١ : ٣، ونحن نشغل قسمها الأعلى وهو منتفخ قليلًا، وليست تقوم على شيء بخلاف ما ارتأى طاليس؛ إذ لا بد من سماء سفلى تجتازها الشمس والكواكب من المغرب؛ لتعود فتظهر في الشرق، كما أنها تجتاز السماء العليا من الشرق إلى المغرب، فالأرض معلقة في وسط السماء ثابتة في مكانها؛ لأنها واقعة على مسافة واحدة من الأجرام السماوية، فليس هناك ما يجعلها تتحرك إلى جهة دون أخرى، ولأن [16]النسبة المذكورة بين ارتفاعها وعرضها تكفل لها الاستقرار بذاتها.
جـ — أما الأحياء فقد تولدت في الرطوبة بعد التبخر؛ أي في طين البحر، وهو مزاج من التراب والماء والهواء، فكانت في الأصل سمكًا مغطى بقشر شائك حتى إذا ما بلغ بعضها أشده نزح إلى اليبس وعاش عليه ونفض عنه القشر، والإنسان لم يوجد أول ما وجد على ما نراه اليوم طفلًا عاجزًا عن توفير أسباب معاشه وإلا لكان انقرض، ولكنه منحدر هو أيضًا من حيوانات مائية مختلفة عنه بالنوع حملته في بطنها زمنًا طويلًا إلى أن نمت قواه وتم تكوينه، فاستطاع أن يقف على اليابسة وأن يحفظ حياته بنفسه.
د — والتطور قانون عام: تخرج الأشياء من اللامتناهي ثم تنحل وتعود إليه ويتكرر الدور وهلم دواليك، منها ما «يشرق ويغرب في آجال بعيدة» هي العوالم التي لا تحصى، ومنها ما يتكون ويفسد في أوقات قصيرة «ويعوض بعضها البعض على مر الزمان» هي الجزئيات مثل الحرارة تشرب ماء الأرض، فيرد البخار هذا الماء للأرض مطرًا، وهكذا إلى نهاية الدور، فالحركة دائمة، والموجودات متغيرة، والمادة اللامتناهية باقية غير حادثة ولا مندثرة.
هـ — فأنكسيمندريس يفسر تكوين الأشياء تفسيرًا «آليًّا» أي بمجرد اجتماع عناصر مادية وافتراقها بتأثير الحركة دون علة فاعلية متمايزة ودون غائية، وهي في تصوره لهذا التكوين يكاد يقترب من تصور غير واحد من العلماء المحدثين — لابلاس مثلًا — ويكاد يقول بمذهب التطور في عالم الحياة، بل يكاد يقول بقانون الجاذبية لولا أن رأيه يرجع — على حد تعبير أرسطو — إلى أن الأرض المستقرة في مركز العالم تشبه رجلًا يهلك جوعًا؛ لأنه لا يجد سببًا يحمله على الأكل من طبق دون آخر من أطباق تحيط به على مسافة واحدة! وأنكسيمندريس يمد لوجود إلى غير حد في المكان وفي الزمان فيقول بعوالم لا تحصى وبدور عام [17]يتكرر إلى ما لا نهاية، والقول الأول وليد المخيلة تأبى أن تتمثل حدًّا للمادة وخلاء ليس فيه شيء، والقول الثاني قديم ربما نشأ من النظر في حركات الأفلاك تتجدد باستمرار وتأيد بتحول الأجسام بعضها إلى بعض وتداول الفصول وهو على كل حال يعني ضرورة مطلقة وقانونًا كليًّا يسيطر على الوجود ويفسر كيف أن الوجود لم يبدأ ولن ينتهي — وهذه عقيدة شائعة بين فلاسفة اليونان — يسميها الإسلاميون بالدهرية؛ لقولها: إن الدهر دائر لا أول له ولا آخر، غير أن أنكسيمندريس مع إنكاره على طاليس أن يكون المبدأ الأول شيئًا معينًا قد وضع مبادئ عديدة معينة هي هذه الأضداد الموجودة في اللامتناهي دون أن يبين أصلها، أليست هي المبادئ الحقيقية؟ أوليس اللامتناهي حالة اختلاطها وتعادلها؟ فلا يصح أن يسمى مبدأ بالمعنى الذي فهمه طاليس؛ أي ما منه تتكون الأشياء؛ لكنه مبدأ باعتباره نقطة بداية التطور العام — وهذه نظرة علمية، فالمسألة الفلسفية ما تزال قائمة.
٩ – أنكسيمانس
أ – هو تلميذ أنكسيمندريس وأقل منه توفيقًا في العلوم، وأضيق خيالًا، عاد إلى رأي طاليس في الأرض؛ فاعتقد أنها قرص مسطح قائم على قاعدة، وأنكر حركة الشمس ليلًا تحتها، واستبدل بها حركة جانبية حولها، وعلل اختفاء الشمس من المساء إلى الصباح بأن جبالًا شاهقة تحجبها عن الأنظار من جهة الشمال، أو بأنها أبعد عن الأرض في الليل منها في النهار، وقد كان مثل هذا القول معروفًا عند المصريين، واشتغل بالظواهر الجوية، ولا يلوح أنه أفاد العلم من هذه الناحية.
ب – وعاد إلى موقف طاليس أيضًا في مسألة المادة الأولى فقال: إنه [18]محسوس متجانس، ولكن هذا الشيء هو الهواء وأن الهواء لا متناهٍ يحيط بالعالم ويحمل الأرض، ولسنا ندري على وجه التحقيق السبب الذي حداه إلى إيثار الهواء؛ فقد يكون أن الهواء ألطف من الماء، وأنه يقوم بذاته بينما الماء يسقط إن لم يرتكز إلى قاعدة، وأنه أسرع حركة، وأوسع انتشارًا، وأكثر تحقيقًا لللاتناهي، وقد يكون أن علة وحدة الحي النفس، والنفس هواء (ولفظ Psyché يعني باليونانية النفس والنَّفَس) فالهواء نفس العالم وعلة وحدته، ومهما يكن هذا السبب فالمحقق أن المبدأ الأول عنده الهواء، وأن الموجودات تحدث منه بالتكاثف والتخلخل، فإن تخلخل الهواء ينتج النار وما يتصل بها من الظواهر الجوية النارية والكواكب وتكاثفه ينتج الرياح فالسحاب فالمطر، وتكاثف الماء ينتج التراب (الطمي في الأنهر) فالصخر.
جـ – فأنكسيمانس يستعيض عن اللامتناهي الذي هو مزاج من الأشياء جميعًا بشيء واحد هو الهواء، وعن الحركة وما تحدثه من اجتماع وافتراق عارضين لأجزاء المادة بخاصتين متلازمتين للهواء يتكاثف ويتخلخل بذاته فيحدث النار فالماء فالتراب فتتكوَّن منه ومنها الأشياء بأنواعها، وعلى ذلك فهو يفسر العالم بعلة واحدة تعمل على نحو آلي، وفي هذا التفسير تقدم كبير بالمذهب الآلي إلى الوحدة والبساطة — وهما غايته المنطقية — إلى أن تتما له على يد ديموقريطس.
د – فالمدرسة الملطية؛ إذ توجهت إلى العالم المحسوس؛ تحاول معرفته بالملاحظة والاستدلال، قد وضعت العلم الطبيعي؛ وهي إذ اعتبرت المادة قديمة حية أو متحركة بذاتها وتخيلتها تتحول إلى صور الوجود المختلفة بموجب ضرورة طبيعية أي قانون ثابت قد وضعت الأحادية المادية المعروفة في الفلسفة الحديثة، والتي ترد الأشياء إلى جوهر مادي واحد وتفسرها بتطور هذا الجوهر في الشكل والكم ليس غير، وبهذه النظرية سيقول أيضًا هرقليطس.
[19]
١٠ – هرقليطس
أ – وُلد في أفسوس من أسرة عريقة في الحسب، ولكنه زهد كل جاه وتوفر على التفكير؛ إلا أنه ظل أرستقراطيًّا بكل معنى الكلمة، يعتد بنفسه، ويباعد بينه وبين الناس، يحتقر العامة ومعتقداتها الدينية، وعباداتها السخيفة، ومعارفها التقليدية، وينقم من هوميروس وهزيود أنهما ثبتا فيها الخرافات والأضاليل، ويستخرج من حكمها السياسي الشواهد على جهلها وعبثها، فيشبهها تارة بالأطفال، وأخرى بالكلاب، وثالثة بالحمير، بل إن كبرياءه تعدى العامة إلى العلماء؛ فكان يزدري العلم الجزئي «الذي لا يثقف العقل» وينعي على فيثاغورس وأكسانوفان اشتغالهما به فلم يحسب، ولم يرسم، ولم يجرِ التجارب، ولكنه كان يعتبر العلم الجدير به التفكير العميق في المعاني الكلية، يخلع عليها أسلوبًا فخمًا مبهمًا كثير الرمز والتشبيه حتى لقب بالغامض، وقد قال هو نفسه في أسلوبه: «إنه لا يفصح عن الفكر ولا يخفيه، ولكن يشير إليه.» وإن الشذرات المائة والثلاثين التي بقيت لنا من كتابه لتدل على ذلك دلالة كافية؛ غير أن ازدراءه العلم الجزئي تركه جاهلًا بالطبيعة جهلًا فاضحًا وهبط به إلى صف العامة؛ فقد اعتقد مثلًا أن غروب الشمس انطفاؤها في الماء، وأنها تتجدد كل يوم، وأن قطرها قدم واحدة كما يبدو للبصر، وغير ذلك من الأوهام، أما فلسفته فعميقة قوية هي التي خلدت اسمه وكان لها أثر بعيد.
ب – «الأشياء في تغير متصل» هذا قوله الأكبر وملخص مذهبه، وهو يمثل له بصورتين: إحداهما جريان الماء فيقول: «أنت لا تنزل النهر الواحد مرتين، فإن مياهًا جديدة تجري من حولك أبدًا.» والصورة الأخرى اضطرام النار وهي أحب لديه من الأولى؛ لأن النار أسرع حركة وأدل على التغير، ولأنه [20]يرى في النار المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع إليه، ولولا التغير لم يكن شيء فإن الاستقرار موت وعدم، والتغير صراع بين الأضداد؛ ليحل بعضها محل بعض «والشقاق أبو الأشياء وملِكها»؛ لولا المرض لما اشتهينا الصحة، ولولا العمل لما نعمنا بالراحة، ولولا الخطر لما كانت الشجاعة، ولولا الشر لما كان الخير، «أليست النار تحيي موت الهواء، والهواء يحيي موت النار، والماء يحيي موت التراب، والتراب يحيي موت الماء، والحيوان يحيي موت النبات، والإنسان يحيي موت الاثنين؟» فالوجود موت يتلاشى، والموت وجود يزول، كذلك الخير شر يتلاشى، والشر خير يزول، فالخير والشر والكون والفساد أمور تتلازم وتنسجم في النظام العام بحيث يمتنع تعيين خصائص ثابتة للأشياء: «ماء البحر أنقى وأكدر ماء يشربه السمك ولا يستسيغه الإنسان، هو نافع للأول ضار بالثاني، ونحن ننزل النهر ولا ننزل (من حيث إن مياهه تتجدد بلا انقطاع) ونحن موجودون وغير موجودين (من حيث إن الفناء يدب فينا في كل لحظة)» فكل شيء هو كذا، وليس كذا موجود وغير موجود.
جـ – قلنا: إنه يرى في النار المبدأ الأول الذي تصدر عنه الأشياء وترجع إليه، لا النار التي ندركها بالحواس، بل نار إلهية لطيفة جدًّا أثيرية، نسمة حارة حية عاقلة أزلية أبدية تملأ العالم، يعتريها وهن فتصير نارًا محسوسة، ويتكاثف بعض النار فيصير بحرًا، ويتكاثف بعض البحر فيصير أرضًا، وترتفع من الأرض والبحر أبخرة رطبة تتراكم سحبًا فتلتهب وتنقدح منها البروق وتعود نارًا أو تنطفئ هذه السحب فتكون العاصفة وتعود النار إلى البحر، ويرجع الدور، فالتغير يجري في طريقين متعارضين: طريق إلى أسفل وطريق إلى أعلى مع بقاء كمية المادة الأولى أو لنار واحدة، ومن تقابل هذين التيارين يتولد النبات والحيوان [21]على وجه الأرض، غير أن النار تخلص شيئًا فشيئًا مما تحولت إليه، فيأتي وقت لا يبقى فيه سوى النار، وهذا هو الدور التام أو «السَّنة الكبرى»[4] تتكرر إلى غير نهاية بموجب قانون ذاتي ضروري («لوغوس») «فالمبادلة متصلة من الأشياء إلى النار، ومن النار إلى الأشياء، كما يستبدل الذهب بالسلع، وتستبدل السلع بالذهب. وهذا العالم لم يصنعه أحد من الآلهة أو البشر، ولكنه كان أبدًا وهو كائن وسيكون نارًا حية تستعر بمقدار وتنطفئ بمقدار» هذه النار هي الله. «والله نهار وليل، شتاء وصيف، حرب وسلم، وفرة وقلة، يتخذ صورًا مختلفة كالنار المعطرة تسمى باسم العطر الذي يفوح منها.» أما النفس الإنسانية فهي بخار حار — والحرارة ضرورية للحي — هى قبس من النار الإلهية تدبر الجسم كما تدبر النار العالم، فيجب عليها أن تعلم قانونها وأن تعمل به فلا تتشبث بالجسم ومطالبه، بل تضع ذاتها في التيار العام وتقمع الشهوة؛ لأن الشهوة توكيد للشخصية، والشخصية انتقاض على القانون الطبيعي ومعارضة للتغير، والدين الحق مطابقة الفكر الفردي للقانون الكلي («لوغوس») والفناء في النار العالمية.
د – فهرقليطس يقول بوحدة الوجود مثل فلاسفة ملطية، ويمتاز بشعوره القوي بالتغير، وإن الفكرتين لتستتبعان الشك حتمًا، فوحدة الوجود تعني أن شيئًا واحدًا هو الموجود، وأن ما عداه مظاهر وظواهر، والتغير يعني أن كل موجود جزئي فهو كذا وليس كذا في آنٍ واحد، أو هو نقطة تتلاقى عندها الأضداد وتتنازعها فيمتنع وصفه بخصائص دائمة ضرورية ويمتنع العلم، فلا عجب [22]أن يقوم لهرقليطس أتباع من السوفسطائيين يذهبون في سبيل الشك إلى أقصى حد، ولو أنه هو لم يكن يقصد إلى هذه النتيجة، فإنه إذ قال باللوغوس أراد أن يضع حقيقة مطلقة فوق التغيُّر المحسوس، وعلمًا يقينيًّا في الجوهر الأوحد، وفي العقل الإنساني الذي يدركه، ولكن تاريخ الفلسفة يعلمنا أن منطق المذهب أقوى من مقاصد صاحب المذهب، فهرقليطس سواء أراد أو لم يرد هو الجد الأول للشك في الفلسفة اليونانية (٢٣–ب، ٣١–ب ج، ٦٥–ج د).
وتسمى بالكور: «إن للفلك وأشخاصه … أدوارًا كثيرة … ولأدوارها كور … أما الأكوار فهي استئنافاتها في أدوارها وعودتها إلى مواضعها مرة بعد أخرى» رسائل إخوان الصفاء طبعة القاهرة ١٩٢٨ ج٣ ص٢٤٣-٢٤٤. تصنيف:
ما بعد الطبيعة لأرسطو م١ ف٣ ص٩٨٣ ع ب س٢٠ وما بعده.
كتاب النفس م١ ف٥ ص٤١١ ع ا س٨–١٠.
كتاب النفس م١ ف٢ ص٤٠٥ ع ا س١٩–٢١.
==============
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/الفيثاغوريون 
   الفيثاغوريون نشأة العلم والفلسفة
المؤلف: يوسف كرمالإيليون[23]
الفصل الثاني
الفيثاغوريون
١١ – النحلة الأرفية:
أ – كان من جراء وقوف اليونان على الأفكار الشرقية أن تبدلت أفكارهم الدينية واصطنعوا إلى جانب الديانة الأهلية ديانات سرية متوخين غاية جديدة هي الاتصال بالآلهة والمشاركة في سعادتهم متخذين سبيلًا إلى تحقيقها ممارسة طقوس معينة يعتقد فيها الصلاحية لذلك على مثل ما هو معروف في السحر، وأهم هاته الديانات «الأرفية»؛ نسبة لشاعر من أهل تراقيا اسمه أرفيوس يستحيل علينا معرفة حياته وآرائه ومنشأ نحلته؛ لكثرة ما روي عنه من الأخبار المتضاربة، وأضيف إليه من الكتب المتناقضة، ولكن التاريخ عرف الأرفية أول ما عرفها في القرن السادس ذائعة ذيوعًا قويًّا؛ وبالأخص في إيطاليا الجنوبية وصقلية، والمذهب قائم على أسطورة مؤداها أن تزوس وهب ديونيسوس (إله الحب، وهو ابنه من ابنته بِرْسِفون) السلطان على العالم، وهو ما يزال طفلًا فغارت منه هيرا زوجة تزوس وألبت عليه طائفة من الآلهة الأشداء هم «الطيطان» فكان ديونيسوس يستحيل صورًا مختلفة ويردهم عنه إلى أن انقلب ثورًا فقتلوه وقطعوه وأكلوه، إلا أن الإلهة بلَّاس (مينرفا) استطاعت أن تختطف قلبه فبعث من هذا القلب ديونيسوس الجديد، وصعق تزوس الطيطان وخرج البشر من رمادهم. الإنسان مركب من عنصرين متعارضين: من العنصر الطيطاني وهو مبدأ الشر، ومن دم ديونيسوس وهو مبدأ الخير، ويجب عليه أن يتطهر من الشر وهذا أمر عسير لا تكفي له حياة أرضية واحدة، بل لا بد من سلسلة [24]ولادات تطيل مدة التطهير والتكفير إلى آلاف السنين، ورتبوا على هذه العقيدة طقوسًا كانوا يقيمونها ليلًا؛ منها: التطهير بالاستحمام باللبن أو بالماء تضاف إليه مادة تلونه بلون اللبن، وتقدمة القرابين غير الدموية، وتمثيل قصة ديونيسوس، بما في ذلك تقطيع ثور وأكل لحمه نيئًا، وتلاوة صلوات بينها وبين كتاب الموتى المعروف عن المصريين مشابهات كثيرة، وقد اكتشفت مقابر في إيطاليا الجنوبية وجدت فيها صفائح من ذهب عليها إرشادات للنفس عما يجب أن تسلك بعد الموت من طرق وتتلو من صلوات، فكانت هذه الصفائح دليلًا قاطعًا على أنهم عرفوا كتاب الموتى وأخذوا عنه كما أنهم أخذوا فكرة الولادات المتعاقبة عن الهنود — مباشرة أو بواسطة الفرس — وتمتاز الأرفية بالإيمان الراسخ بالعدالة الإلهية وبالسعي وراء الطهارة، بينا باقي «الأسرار» كانت تستبيح بعض المخازي وتدمجها في الشعائر، وتتصور العالم الآخر تصورًا ماديًّا، والطهارة في الأرفية خلاص النفس من البدن وهو لها بمثابة القبر، وهو عدوها اللدود يجري معها على خصام دائم تتأجج ناره في صدر الإنسان، كذلك تمتاز الأرفية بأن إلههم عديم النظير بين آلهة اليونان؛ فهم يمجدون فيه العذاب غير المستحق والفوز النهائي للضعيف صاحب الحق، وتمتاز أخيرًا بأنها شيعة الطبقى الوسطى المثقفة، وقد نبغ فيها رجال اعتمدوا على التفكير الشخصي في حل مسألة نشوء العالم، فلم يقبلوا الأساطير اليونانية على علاتها، بل هذبوها واستعانوا بأساطير الشرقيين وعلومهم، فكانوا طبقة وسطى بين اللاهوتيين الأولين وبين الفلاسفة — مع بقائهم في دائرة الأسطورة — وظلت الأرفية حية إلى أوائل المسيحية، وكان لها أثر فعال في الشعراء والمفكرين من نشأتها إلى اندثارها، بل يمكن القول: إنها هي التي وجهت الفلسفة وجهتها العقلية الروحية على أيدي فيثاغورس — كما سنرى الآن — وأكسانوفان وسقراط وأفلاطون وأصحاب الفيثاغورية الجديدة والأفلاطونية الجديدة، فسنجد عندهم [25]جميعًا عقائدها وتعابيرها كأصول يحاولون ترجمتها ترجمة عقلية والبرهنة عليها.
١٢– فيثاغورس وفرقته
أ– نشأ فيثاغورس في ساموس، وكانت جزيرة أيونية مشهورة ببحريتها وتجارتها، وتقدم الفنون فيها، طَوَّفَ في أنحاء الشرق، ولما ناهز الأربعين قصد إلى إيطاليا الجنوبية، وكان المهاجرون اليونان قد بلغوا فيها درجة عالية من المدنية والثقافة، ونزل ثغر أقروطونا؛ حيث كانت مدرسة طبية شهيرة، وما لبث أن عرف بالعلم والفضل، فطلب إليه مجلس الشيوخ فيما يذكر أن يعظَ الشعبَ ففعل فذاع اسمه وأقبل عليه المريدون من مختلف مدن إيطاليا وصقلية، وحتى من روما؛ فأنشأ فرقة دينية علمية تشبه الأرفية، أو هي أخذت عنها، ثم أثرت فيها، وكانت فرقته مفتوحة للرجال وللنساء من اليونان والأجانب على السواء؛ يعيش أعضاؤها في عفة وبساطة بموجب قانون ينص على الملبس، والمأكل، والصلاة، والترتيل، والدرس، والرياضة البدنية؛ فكانوا منظمين تنظيمًا دقيقًا يصدعون بما يؤمرون غير ناظرين إلا إلى «أن المعلم قد قال»، وكان المعلم متشبعًا بعاطفة دينية قوية ومقتنعًا بفكرة جليلة هي أن العلم وسيلة فعالة لتهذيب الأخلاق وتقديس النفس؛ فجعل من العلم رياضة دينية إلى جانب الشعائر، ووجه تلاميذه هذه الوجهة؛ فاشتغلوا بالرياضيات، والفلك، والموسيقى، والطب، وشرح هوميروس وهزيود.
ب– وكان طبيعيًّا من هذه الجماعة المثقفة المتضامنة الرامية إلى الإصلاح في بلد حديث خلو من التقاليد، كثير التقلبات الديموقراطية، أن تفكر في السياسة وتميل إلى نظام أرستقراطي يقر الأمور في نصابها فتؤثر من هذه الناحية أيضًا فيمن ينتمي إليها من الحكام والأهلين؛ بل تتحول إلى هيئة سياسية وتتولى [26]الحكم بنفسها، وهذا ما حدث في أقروطونا وغيرها من المدن الإيطالية في ظروف لم تصل إلينا أخبارها؛ غير أن الشعب والأعيان المبعدين عن الحكم لم يرضوا عن هذا الانقلاب، وما زال المعارضون يعملون في الخفاء حتى تألبوا ذات يوم على الدار التي كان زعماء الفرقة مجتمعين فيها فأحرقوها؛ ولم ينجُ من الفيثاغوريين سوى اثنين، أما فيثاغورس فقد قيل: إن حملات أعدائه اضطرته للهجرة فاعتزل في ميتابونتس ومات هناك قبل الثورة، وقيل: بل كان في أقروطونا ولكنه كان متغيبًا عن مركز الجمعية يوم الحريق فاستطاع أن ينجو بنفسه، وذهب إلى لوقريس ثم إلى ترنتا، وأخيرًا إلى ميتابونتس وقضى فيها بعد أن صام أربعين يومًا، وشبت الثورات على أنصاره في مختلف المدن فثبتوا لها في مدينتي رچيوم وترنتا، وعبر البحر إلى القارة اليونانية من خذل منهم؛ فقصد فريق إلى طيبة، وآخر إلى فليونتس، ولما تعاظم شأن أثينا قدمها نفر منهم، فكان لهم أثر خطير في الفلسفة والعلوم، ثم تلاشت الجمعية في عهد أفلاطون (حوالي سنة ٣٥٠) ولم يبقَ منها سوى أفراد تناقلوا تعاليمها فكانوا حلقة الاتصال بين هذا العصر وعصر ثانٍ بدأ في منتصف القرن الأول قبل الميلاد، واستمر إلى القرن الرابع بعده.
جـ– هذا ما يقال بالإجمال عن فيثاغورس وفرقته، وليس من المستطاع زيادة البيان دون الاستهداف للخطأ؛ فإن آثار رجال العصر الأول قد فقدت جميعًا، وكل ما ينسب لفيثاغورس من «أشعار ذهبية» ومن «كتب ثلاثة» (المهذب والسياسي والطبيعي) فهو منحول يرجع إلى العصر الثاني، كذلك الكتب المعزوة لتلاميذه الأولين (وأشهرهم فيلولاوس) منحولة أو مشكوك فيها إلى حد كبير، أما أقوال الفيثاغورية الجديدة عن المدرسة القديمة فيجب أن تقابل بغاية الحذر لما فيها من ميل ظاهر إلى الغريب الشاذ ومن تأويل شخصي، يزاد على ذلك أنها تضيف للفيثاغورية الأولى أفكارًا وأمورًا لم تعرف إلا بعدها؛ منها: الأفلاطوني [27]والرواقي، بل البوذي، وحتى هيرودوت، وقد عاش في الأوساط الفيثاغورية في إيطاليا الجنوبية وصقلية بعد وفاة فيثاغورس بنصف قرن فإنه يخلط في كلامه عنه وعن جمعيته؛ ذلك أن مخيلة الأتباع والأنصار كانت قد تناولت فيثاغورس ونسجت حوله الأساطير فقالوا: إنه ابن أبولون أو هرمس ورووا عنه من الخوارق كل عجيب غريب، أما الجمعية فيروى عنها أشياء كثيرة: أشهرها أنها كانت تحرم أكل الحيوانات وبعض النبات، ويقال: إن هذا التحريم لم يكن مطلقًا، ويذكر أنها كانت سرية يتعارف أفرادها بإشارات خاصة، ويتعهدون بكتمان تعاليمها الديني منها والعلمي، وأنهم أعدموا واحدًا منهم غرقًا؛ لإفشائه سرًّا هندسيًّا وليس ما يمنع من التصديق بهذه السرية، لا سيما أن أرسطو نفسه، إذ يتحدث عن المذهب لا يميز بين ما كان لفيثاغورس فيه من نصيب وما كان لتلاميذه، بل يذكرهم جملة بقوله: «الذين يدعون بالفيثاغوريين» أو «المدرسة الإيطالية» مما يدل على أن الجمعية كانت وحدة توارت وراءها شخصيات أفرادها، حتى تسربت آراؤهم ومكتشفاتهم إلى الخارج فاندمجت في الثقافة اليونانية خالصة من كل شخصية.
١٣ – مذهبهم
أ – يذكر أن فيثاغورس هو الذي وضع لفظ «فلسفة»؛ إذ قال: «لست حكيمًا؛ فإن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة، وما أنا إلا فيلسوف» أي محب للحكمة وقد كان رياضيًّا بارعًا، ولعل أهم آثاره في هذا الباب أنه برهن على أن قوة الأصوات تابعة لطول الموجات الصوتية، فبين أن الأنغام تقوم خصائصها بنسب عددية ويترجم عنها بالأرقام؛ فوضع الموسيقى علمًا بمعنى الكلمة بإدخال الحساب عليها، ولا شك أن دراسة الفيثاغوريين الأعداد والأشكال والحركات والأصوات وما بينها من تقابل عجيب، وما لها من قوانين ثابتة، صرفت عقولهم إلى ما في [28]العالم من نظام وتناسب «فرأوا أن هذا العالم أشبه بعالم الأعداد منه بالماء أو النار أو التراب، وقالوا: إن مبادئ الأعداد هي عناصر الموجودات، أو إن الموجودات أعداد، وإن العالم عدد ونغم.»[1] وقالوا أيضًا: «إن الأعداد نماذج تحاكيها الموجودات دون أن تكون هذه النماذج مفارقة لصورها»[2] إلا في الذهن، والقولان يرجعان إلى واحد مؤداه التوحيد بين عالم الموجودات وعالم الأعداد، وساعد على هذا التصور أنهم لم يكونوا يتمثلون العدد مجموعًا حسابيًّا بل مقدارًا وشكلًا، ولم يكونوا يرمزون له بالأرقام، بل كانوا يصورونه بنقط على قدر ما فيه من آحاد، ويرتبون هذه النقط في شكل هندسي، فالواحد النقطة، والاثنان الخط، والثلاثة المثلث، والأربعة المربع، وهكذا، وكانوا من ثمة يصفون الأعداد بالأشكال فيقولون: الأعداد المثلثة والمربعة والمستطيلة؛ أي التي تصور بنقط مرتبة بشكل مخصوص، فخلطوا بين الحساب والهندسة ومددوا في المكان ما لا امتداد له، وحولوا العدد أو الكمية المنفصلة إلى المقدار أو الكمية المتصلة، ثم لم يُجدهم ذلك شيئًا في تفسير الطبيعة؛ لأنهم إنما «أصابوا خصائص الجسم الرياضي لا خصائص الجسم الطبيعي، ولم يفسروا الحركة والكون والفساد، وهي أمور بادية في العالم المحسوس، ولم يبينوا علة ثقب التراب والماء وخفة النار وسائر الخصائص في الأجسام المحسوسة، ولكنهم ركبوا الأجسام الطبيعية من الأعداد؛ أي إنهم ركبوا أشياء حاصلة على الثقل والخفة من أشياء ليس لها ثقل ولا خفة.»[3]
ب – وهذا هو السبب في أنهم لم يضعوا في العلم الطبيعي رأيًا جديدًا، بل [29]نقلوا عن أنكسيمندريس وبالأخص عن أنكسيمانس فتصوروا العالم كائنًا حيًّا — حيوانًا كبيرًا — يستوعب بالتنفس خلاء لا متناهيًا فما وراء العالم هو عبارة عن هواء غاية في اللطافة، ضروري للفصل بين الأشياء وتمييزها بعضها من بعض، ومنعها من أن تتصل فتكوِّن شيئًا واحدًا،[4] وقالوا بعوالم كثيرة ولكن في عدد متناه، وجعلوا الأشياء تحدث بالتكاثف والتخلخل لا بتحول بعضها إلى بعض؛ لأن الأعداد نظام ثابت متجانس، وقالوا بالدور وعودة الأشياء هي بأنفسها في آجال طويلة («السنة الكبرى») إلى غير نهاية، ويروى في هذا الصدد أن أوديموس تلميذ أرسطو قال مخاطبًا تلاميذه: «إذا صدقنا الفيثاغوريين فسيجيء يوم نجتمع ثانية في هذا المكان فتجلسون كما أنتم لتسمعوا إليَّ وأتحدث أنا إليكم كما أفعل الآن».
جـ – أما النفس فقد وصلت إلينا عنهم أقوال متباينة فيها، فنحن نجد عند أفلاطون رأيًا لبعضهم يقول: إن النفس نوع من النغم، ومعنى ذلك أن الحي مركب من كيفيات متضادة (الحار والبارد واليابس والرطب) والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه،[5] وهذه من غير شك نظرية أطباء الفرقة (أو نفر منهم) صدروا فيها عن فكرتهم العامة («العالم عدد ونغم») وخالفوا أمورًا جوهرية في مذهبهم؛ فإن النغم نتيجة توافق الأضداد، فإذا كانت النفس نغمًا لزم من جهة أن ليس لها وجود ذاتي — والفيثاغورية تؤمن بالخلود — ولزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن — والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ[6] — على أن أرسطو إذ [30]يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين[7]، ولكنه يضيف إليهم صراحة قولين: يذهب الواحد إلى أن النفس هي هذه الذرات المتطايرة في الهواء، والتي تدق عن إدراك الحواس فلا تبصر إلا في شعاع الشمس وتتحرك دائمًا حتى عند سكون الهواء، فكأن أصحاب هذا الرأي أرادوا أن يفسروا الحركة الذاتية في الحيوان فافتكروا أن هذه الذرات المتحركة دائمًا تدخل جسمه وتحركه، ولعلهم ظنوا أن هذا التصور يفسر أيضًا كيف أن المولود يجد ساعة ميلاده نفسًا تحل فيه، وهم على كل حال يتابعون معاصريهم فيتصوَّرون النفس مادية وإن جعلوها مادة لطيفة جدًّا، ويذهب القول الآخر إلى أن النفس هي المبدأ الذي تتحرك به هذه الذرات،[8] وهو قول يخيل إلينا أنه رأيهم الحق، وهو أرقى من القولين السابقين وجامع لهما بحيث تكون النفس عندهم مبدأ أو علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعًا.
د – وبعد الموت تهبط النفس إلى «الجحيم» تتطهر بالعذاب ثم تعود إلى الأرض تتقمص جسمًا بشريًّا أو حيوانيًّا أو نباتيًّا ولا تزال مترددة بين الأرض والجحيم حتى يتم تطهيرها، وفيثاغورس أول من قال بالتقمص أو التناسخ في اليونان، والعقيدة هندية، وقد رأينا أن الأرفية كانت تقول بولادات متعاقبة، ويروى أنه كان يدعي أنه متجسد للمرة الخامسة، وأنه يذكر حيواته السابقة، وعند الفيثاغوريين أن أزمنة التقمص قد حددها الآلهة ونحن مِلكهم، فليس لنا أن نخالف النظام الذي وضعوه بالانتحار أو بإهلاك الحيوان فيما عدا التضحية، وقد يلوح أن نظرية التناسخ متمشية مع نظرية الدور تؤيدها وتفسرها فيما يختص [31]بالأحياء، ولكن الغاية من التناسخ الطهارة التامة والسعادة الدائمة؛ فكيف نوفق بين هذا الدوام وبين الدور؟
هـ – ولم تصل إلينا نصوص صريحة عن عقيدتهم في الألوهية، أما ما يذكر من أنهم كانوا يضعون «الواحد» فوق الأعداد والموجودات ويجعلونه مصدرها جميعًا فتأويل أفلاطوني، وكل ما يمكن أن يقال: إنهم طهروا الشرك الشعبي من أدرانه، ونزهوا الآلهة عما ألحقت بهم المخيلة العامة من نقائص.
١٤ – علومهم
أ – وإذا انتقلنا من تصورهم للمسائل الكلية إلى آرائهم في العلوم الجزئية وجدنا فكرتهم الأساسية مسيطرة عليها كذلك، وقد مرت بنا الإشارة إلى أطبائهم فنقول الآن: إنهم أثروا أكبر تأثير في مدرسة أقروطونا وحولوها إلى مذهبهم، بنوا الطب على تناسب الأضداد فقالوا: إن مبدأ الحياة الحار ملطفًا بالبارد أي بالهواء الخارجي يجذب بالشهيق ويدفع بالزفير فإذا اختلت النسبة بينهما كان المرض، وإذا زاد الاختلال كان الموت، فالحياة والصحة تناسبٌ وتناسقٌ، والمرض والموت اختلال التناسب أي إفراط أو تفريط بالإضافة إلى الحد الملائم، والتطبيب حفظ التناسب أو إعادته، وطبقوا هذا الرأي تطبيقًا عامًّا فقالوا مثلًا: إن المناخ الأحسن هو مناخ المنطقة المعتدلة؛ أي المتوسطة بين الحار والبارد، وهكذا، ومن نوابغهم في هذا الفن القميون زعيم مدرسة أقروطونا، ومما يذكر له قوله: ليست النفس في القلب 5وكان هذا اعتقاد القدماء) وإنما في الدماغ، والدماغ هو مركز التفكير تصل إليه بواسطة قنوات دقيقة التأثيرات الواقعة على أعضاء الحواس، ويقال: إنه أثبت رأيه بالتجربة فبيَّن بالتشريح أن كل اضطراب في المخ يفسد الوظائف الحاسة.
[32]ب – وامتازوا في علم الفلك وصدروا فيه أيضًا عن اعتباراتهم الرياضية؛ فمضوا يصورون العالم كما شاءت لهم غير حافلين بالواقع، كأنما مهمتهم تكوين العالم لا تمثيله وتفسيره، فقالوا مثلًا: «إن العدد الكامل هو العشرة؛ لأنه مؤلف من الأعداد جميعًا، وحاصل على خصائصها جميعًا، فيلزم أن الأجرام السماوية المتحركة عشرة؛ «لأن العالم كامل وحاصل على خصائص الكامل»، ولكن لما كان المعروف المنظور منها تسعة فقط (٥٩–ج) فقد وضعوا أرضًا غير منظورة مقابلة لأرضنا إلى أسفل؛ ليكملوا العدد عشرة.»[9] كذلك ذهبوا إلى أن مركز العالم يجب أن يكون مضيئًا بذاته؛ لأن الضوء خير من الظلمة، ويجب أن يكون ساكنًا؛ لأن السكون خير من الحركة فليست الأرض مركز العالم وهي مظلمة وفيها نقائص كثيرة، ولكنه «نار مركزية» غير منظورة؛ لأنها واقعة هي أيضًا إلى أسفل أرضنا والمأهول من الأرض في اعتقادهم نصفها الأعلى، ولم يفتهم أن يعينوا لكل من النار المركزية والأرض الأخرى شأنًا في نظام العالم: النار المركزية تمد الشمس بحرارتها فتعكس الشمس الحرارة على الأرضَيْن وعلى القمر، والأرض الأخرى تفسر الكسوف والخسوف بتوسطها بين النار المركزية وبين القمر أو الشمس.[10] — ومهما يكن من قيمة استدلالهم فإن تنحيتهم الأرض عن مركز العالم كان ثورة على التصور القديم، وثمة ثورة أخرى هي قولهم بكروية الأرض، ولم يبلغ إلينا سبب هذا القول، وقد يكون أن الدائرة خير الأشكال؛ لكمال انتظام جميع أجزائها بالنسبة للمركز على ما هو معروف عنهم، وبديهي أن الخيال والعاطفة الدينية كانا يجدان غذاء في التصورات التي يوحيانها، [33]فالفيثاغوريون؛ إذ اخترعوا النار المركزية ووضعوها في وسط العالم مجدوها وأسموها أم الآلهة، وقلعة تزوس والهيكل وموقد العالم والمصدر الأول لكل حياة وكل حركة، على أن المتأخرين منهم لم يترددوا في العدول عن النار المركزية والأرض الأخرى بعد أن بلغ الإسكندر الهند، ولم تظهر لا هذه ولا تلك، وقام واحد منهم هو أرسطرخوس من علماء القرن الثالث، فاستبدل الشمس بالنار المركزية فتم له الرأي المعول عليه الآن، ولكنه لم يصادف قبولًا عند أهل زمانه، فبقي في بطون الكتب إلى أن قرأه كوبرنيكوس في شيشرون فوضع نظريته.
جـ – ومن المأثور عنهم قولهم: إن لحركات الأفلاك نغمات[11]، وحجتهم في ذلك أن الجسم إذا تحرك بشيء من السرعة أحدث صوتًا هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير، فلا بد أن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات، وتتفاوت سرعة الأفلاك بتفاوت مسافتها كما تتفاوت في العود سرعة الاهتزازات بتفاوت طول الأوتار، فلا بد أن يكون في السماء ألحان كألحان العود، وإن كنا لا نشعر بها فإنما ذلك لأنا نحسها باتصال، والصوت لا يشعر به إلا بالإضافة إلى السكوت، ولا يبعد أنهم كانوا يخرجون من هذا القول إلى مثل ما خرج إليه إخوان الصفاء حيث قالوا: «إذا تفكر ذو اللب تبين له أن في نغمات تلك الحركات لذة وسرورًا مثل ما في نغمات أوتار العيدان في هذا العالم، فعند ذلك تشوقت نفسه إلى الصعود إلى هناك والاستماع لها والنظر إليها، فاجتهد يا أخي في تصفية نفسك وتخليصها من بحر الهيولى وأسر الطبيعة وعبودية الشهوات الجسمانية، فإن هذه هي المانعة لها من الصعود إلى هناك بعد الموت»[12].
د – فالفيثاغورية نهضة عظيمة متعددة الوجهات، هي نحلة دينية كانت [34]أصدق نظرًا في الدين من الأرفية، وهي مذهب فلسفي يعد أول محاولة للارتفاع عن المادة التي وقف عندها فلاسفة أيونية وفهم العالم بقوانين واضحة وأعداد معينة، وهي مدرسة علمية عنيت بالرياضة والموسيقى والفلك والطب، وعرفت بضع قضايا حسابية وهندسية، ووضعت في الهندسة ألفاظًا اصطلاحية، وهي هيئة سياسية ترمي إلى إقرار النظام في هذه الحياة الدنيا.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٥ ع ب س٢٣–٣٥ وص٩٨٦ ع ا س١–٥.
المرجع المذكور م١ ف٦ ص٩٨٧ ع ب س١٠–١٢ و٢٤–٣٠.
المرجع المذكور م١ ف٨ ص٩٨٩ ع ب س٣٠، ٩٩٠ ع ا س١٦.
أرسطو: السماع الطبيعي م٤ ف٦ ص٢١٣ ع ب س٢٢–٣٠.
فيدون: ص٨٥ (ه)–٨٦ (د).
فيدون: ص٩٢ (أ ب ج).
كتاب النفس: م١ ف٤ ص٤٠٧ ع ب س٣٠–٣٢.
كتاب النفس: م١ ف٢ ص٤٠٤ ع ا س١٦–٢٠.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ا س٥–١٢، وكتاب السماء م٢ ف١٣.
أرسطو: كتاب السماء م٢ ف١٣.
أرسطو: كتاب السماء م٢ ف٩.
الجزء الأول ص١٥٨ وص١٦٨ باختصار.
 ========
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/الإيليون 
   الطبيعيون المتأخرون
[35]
الفصل الثالث
الإيليون
١٥ – أكسانوفان
أ – بارمنيدس هو المؤسس الحقيقي للمدرسة الإيلية (والنسبة إلى إيليا مدينة بناها الإيونيون الهاربون من وجه الفرس على الشاطئ الغربي في إيطاليا الجنوبية حوالى سنة ٥٤٠) ولكن كان قد سبقه فيها أكسانوفان فأعلن أصل المذهب ثم وضعه هو في صورته الكاملة، وجاء بعده زينون فنصب نفسه للدفاع عنه، ثم مليسوس أدخل عليه بعض التعديل دون أن يمس جوهره، وكلهم «يقولون: إن العالم موجود واحد وطبيعة واحدة، يقولون هذا لا كالطبيعيين الذين يفرضون موجودًا واحدًا (ماء أو هواء أو نارًا) ويستخرجون منه كثرة الأشياء بالحركة والتغير العرضي (اجتماع وانفصال، أو تكاثف وتخلخل) بل يقولون: إن العالم ساكن.»[1] فهم ينكرون الكثرة والحركة.
ب – ولد أكسانوفان في قولوفون من أعمال أيونية بالقرب من أفسوس، ويرجح أن غزوة الفرس لبلاده هي التي حملته على مغادرتها، فطوف في أنحاء العالم اليوناني سنين عديدة إلى أن بلغ صقلية، ثم انتقل إلى إيطاليا الجنوبية واستقر في إيليا. كان شاعرًا حكيمًا شريف النفس حر الفكر مر النقد، قال ساخرًا من تكريم الناس للمصارعين: «إن حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل» وقال متهكمًا على فيثاغورس لاعتقاده بالتناسخ إنه «مر ذات يوم برجل يضرب [36]كلبًا فأخذته الشفقة فصاح وهو ينتحب: أمسك عن ضربه يا هذا، إنها نفس صديق لي لقد عرفته من صوته». ج – ويقال بالإجمال إنه ارتفع بعقله فوق حكايات قدماء الشعراء وصرف جهده إلى القول بنظام أسمى من التجربة المحسوسة ومن الرأي العام الجاهل المتقلب، وأهم أقواله: «إن الناس هم الذين استحدثوا الآلهة وأضافوا إليهم عواطفهم وصوتهم وهيئتهم، فالأحباش يقولون عن آلهتهم: إنهم سود فطس الأنوف، ويقول أهل تراقية: إن آلهتهم زرق العيون حمر الشعور، ولو استطاعت الثيرة والخيل لصورت الآلهة على مثالها، وقد وصفهم هوميروس وهزيود بما هو عند الناس موضوع تحقير وملامة، ألا إنه لا يوجد غير إله واحد أرفع الموجودات السماوية والأرضية ليس مركبًا على هيئتنا ولا مفكرًا مثل تفكيرنا ولا متحركًا ولكنه ثابت كله بصر وكله فكر وكله سمع يحرك الكل بقوة وبلا عناء.» هذا كلام قوي في التنزيه والتوحيد، لم يعهد له مثيل في اليونان، غير أن أرسطو يذكر: «أن أكسانوفان نظر إلى مجموع العالم وقال: إن الأشياء جميعًا عالم واحد، ودعا هذا العالم الله ولم يقل شيئًا واضحًا، ولم يبين إن كان العالم عنده واحدًا من حيث الصورة أو من حيث المادة.»[2] فكأنه كان حلوليًّا أو كأنه أخذ وحدة الوجود عن فلاسفة وطنه أيونية، وتصور الوجود تصورًا روحيًّا، وعلى أي حال فلعبارته قيمتها في نفسها وهي جديرة أن تجعل منه واضع «العلم الإلهي». [37]
١٦ – بارمنيدس
أ – ولد في إيليا «ويقال: إنه تتلمذ لأكسانوفان»[3]، ومن المحقق أنه تأثر به فآمن بوحدة الوجود، وضع كتابه «في الطبيعة» شعرًا، فكان أول من نظم الشعر في الفلسفة، وكتابه قسمان: الأول في الحقيقة أي الفلسفة، والثاني في الظن أي في العلم الطبيعي، فإن المعرفة عنده نوعان: عقلية وهي ثابتة كاملة، وظنية وهي قائمة على العرف وظواهر الحواس، فالحكيم يأخذ بالأولى ويعول عليها كل التعويل ثم يلم بالأخرى ليقف على مخاطرها ويحاربها بكل قواه.
ب– والحقيقة الأولى هي «أن الوجود موجود ولا يمكن ألا يكون موجودًا» أما اللاوجود «فلا يدرك؛ إذ إنه مستحيل لا يتحقق أبدًا ولا يعبر عنه بالقول، فلم يَبْقَ غير طريق واحد هو أن نضع الوجود وأن نقول: إنه موجود. والفكر قائم على الوجود ولولا الوجود لما وجد الفكر؛ لأن شيئًا لا يوجد ولن يوجد ما خلا الوجود.» ولما كان الوجود موجودًا فهو قديم بالضرورة لأنه يمتنع أن يحدث من اللاوجود، ويمتنع أن يرجح حدوثه مرجح في وقت دون آخر، فليس للوجود ماضٍ ولا مستقبل ولكنه في حاضر لا يزول وعلى ذلك «يمتنع الكون ولا يتصور الفساد» وينتفي التغير، والوجود والواحد متكافئان فيلزم أن الوجود واحد فقط متجانس «مملوء كله وجودًا» ويلزم أنه ثابت ساكن في حدوده «مقيم كله في نفسه»؛ إذ ليس خارج الوجود ما منه يتحرك وما إليه يسير، وهو كامل متناهٍ أي معين «لا ينقصه شيء»؛ إذ ليس خارج الوجود وجود يكتسب، وهو تام التناهي والتعيين في جميع جهاته؛ إذ لا يمكن أن يكون بعضه أقوى أو أضعف من بعض مثله مثل كرة تامة الاستدارة متوازنة في جميع نقطها، [38]وبالجملة لما اقتنع بارمنيدس بأن العالم واحد رأى أن ما يطلق عليه بهذا الاعتبار هو أنه وجود، وتأمل معنى الوجود مجردًا ومفرغًا من كل مفهوم سوى هذا المفهوم البسيط الهزيل الذي يعني الوجود بالإطلاق، فأدرك أن الوجود واحد قديم ثابت كامل، وأن هذه الصفات لازمة من معنى الوجود فآثر هذا اليقين العقلي وأنكر الكثرة والتغير واعتبرهما وهمًا «وظنًّا»: أليس التغير يعني أن الموجود كان موجودًا ولم يكن موجودًا (ما صار إليه) وأنه باق في الوجود، ومع ذلك فهو ليس موجودًا (على ما كان؟) أوليست الكثرة تعني أن كل وحدة من وحداتها هي كذا أي شيء معين، وليست كذا أي ليست غيرها؟ ولكن قولنا عن شيء إنه ليس كذا معناه أن هذا الشيء حاصل على اللاوجود وهذا معنى غير معقول.
ج – «ولكنه اضطر أن يتبع الظواهر المحسوسة وقال: إن الأشياء واحد في العقل كثير في الحس»[4] فانتقل من يقين العقل إلى ظن الحواس، ومن الفلسفة إلى العلم الطبيعي يحاول أن يفسر الظواهر وأن يورد ما يبلغ إليه الظن فيها فقبل الوجود واللاوجود في آن واحد وهو يعلم أن هذا طريق معارض للعقل، ولكنه يعلم أيضًا أنه أهون عند العقل من طريق الذين يعتقدون «أن الوجود واللاوجود شيء واحد، ثم إنهما ليسا شيئًا واحدًا» ، يريد فيما يلوح معاصره هرقليطس، فتصور بارمنيدس الوجود الكامل غير المنقسم كرة مادية كما تصور الفيثاغوريون العدد ممتدًّا، وشرع يسرد آراء تذكر بقصص هزيود وأقوال أنكسيمندريس وأنكسيمانس فهل كان جادًّا في هذا القسم الثاني من الكتاب مغلوبًا على أمره كما يقول أرسطو أم أنه بجمعه بين خيال هزيود وعلم الإيونيين أراد أن يسخر من العلم الطبيعي ومن أصحابه، وأن يؤيد بالخلف القسم الأول [39]فيبين أن العالم المحسوس لا يفسر بغير ما يقتضيه التغير من اجتماع الوجود واللاوجود، وأن هذا الاجتماع غير معقول وأن التغير وهم؟
د – ومهما يكن من هذه المسألة ومن تشخيص الوجود في كرة مادية متصلة هي مع ذلك واحدة غير منقسمة، فإن ميزة بارمنيدس هي أنه فيلسوف الوجود المحض تجاوز عالم الأعداد والأشكال، وبلغ إلى الموضوع الأول للعقل وهو الوجود، ولقد بهره معنى الوجود فلم يعد يرى غير أمر واحد هو «أن ما هو موجود فهو موجود ولا يمكن ألا يوجد»، وأن «الوجود موجود، واللاوجود ليس موجودًا، ولا مخرج من هذه الفكرة أبدًا» فكان أول فيلسوف جرد مبدأ الذاتية[5] ومبدأ عدم التناقض (٦٥–ج) وأعلنهما صراحة وجعل منهما أساس العقل الذي لا يتزعزع في نفس الوقت الذي كان هرقليطس يهوي فيه على هذا الأساس بكل قوته، ولئن لم يفطن بارمنيدس إلى أن الوجود والواحد يقالان على أنحاء عدة، ولم يفرق بين معانيهما المختلفة فعذره أن هذه المعاني لم تكن قد تميزت بعد وأنها لن تتميز إلا على يد أرسطو (٥٥–ب) وحسبه فخرًا أنه ارتفع إلى مبادئ الوجود ومبادئ العقل بقوة لم يسبق إليها فأنشأ الفلسفة الأولى أو الميتافيزيقا، واستحق أن يدعوه أفلاطون «بارمنيدس الكبير».
١٧ – زينون الإيلي
أ – هو تلميذ بارمنيدس نكاد لا نعرف شيئًا عن حياته سوى أنه ائتمر بطاغية مدينته فانكشف أمره فأذيق عذابًا أليمًا احتمله بثبات عظيم حتى الموت، وإذا أخذنا برواية أفلاطون[6] قلنا: إنه وضع كتابًا في شبابه قصد به إلى تأييد [40]مذهب معلمه ضد الذين سخروا منه وحاولوا أن يبينوا أن القول بالوحدة يستتبع نتائج مضحكة ومناقضة له (وهؤلاء هم الفيثاغوريون الذين يؤلفون العالم من أعداد أي من وحدات منفصلة) فحارب أصحاب الكثرة بأن ألزمهم المحالات وبين أن لمذهبهم نتائج هي أدعى للضحك، فهو قد نهج منهجًا جدليًّا بحتًا يقوم على برهان الخلف ويرمي إلى إفحام الخصم، ولم يصل إلينا من المعلومات ما يكفي لتكوين فكرة مضبوطة عن كتابه وترتيب أقواله، ولكن أرسطو أورد بعض حججه في امتناع الكثرة والحركة.[7]
ب – أما الكثرة فله عليها حجج أربع: يقول لا تخلو الكثرة أن تكون إما كثرة مقادير ممتدة في المكان وإما كثرة آحاد (أعداد) غير ممتدة ولا متجزئة، والحجة الأولى تنظر في الفرض الأول ومؤداها أن المقدار قابل للقسمة بالطبع فيمكن قسمة أي مقدار إلى جزأين، ثم إلى جزأَين، وهكذا دون أن تنتهي القسمة إلى آحاد غير متجزئة؛ لأن مثل هذه الآحاد لا يؤلف مقدارًا متقسمًا وإذن يكون المقدار المحدود المتناهي حاويًا أجزاء حقيقية غير متناهية العدد وهذا خلف — الحجة الثانية في الفرض الثاني وهو أن الكثرة مكونة من آحاد غير متجزئة فتقول: إن هذه الآحاد متناهية العدد؛ لأن الكثرة إن كانت حقيقية فيجب أن تكون معينة، وهذه الآحاد منفصلة بالضرورة وإلا اختلط بعضها مع بعض وهي مفصولة حتمًا بأوساط، وهذه الأوساط بأوساط وهكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يناقض المفروض فالكثرة بنوعيها غير حقيقية — والحجة الثالثة تدعي أنه إذا كانت الكثرة حقيقية كان كل واحد من الأشياء يشغل مكانًا حقيقيًّا ولكن هذا المكان يجب أن يكون هو أيضًا في مكان، وهكذا إلى غير نهاية فالكثرة غير حقيقية — والحجة الرابعة تذهب إلى أنه إذا كانت [41]الكثرة حقيقية فإن النسبة العددية بين كيلة الذرة وحبة الذرة وجزء على عشرة آلاف من الحبة يجب أن يقابلها نفس النسبة بين الأصوات الحادثة من سقوطها إلى الأرض، ولكن الواقع أن لا، وإذن فليست الكثرة حقيقية.
ج – وله حجج أربع كذلك ضد الحركة: الأولى تسمى بالقسمة الثنائية وهي مأخوذة من فرض المقدار مركبًا من أجزاء غير متناهية، وتقول: إن الجسم المتحرك لن يبلغ إلى غايته إلا أن يقطع أولًا نصف المسافة إليها ونصف النصف وهكذا إلى ما لا نهاية، ولما كان اجتياز اللانهاية ممتنعًا فإن الحركة ممتنعة. – والحجة الثانية تمثيل للأولى وتسمى «أخيل» مؤداها إذا فرضنا أخيل «ذا القدمين الخفيفين» يسابق سلحفاة وهي أبطأ الحيوان، وأن هذه السلحفاة متقدمة عليه مسافة قصيرة، وأنهما يبدآن الحركة في وقت واحد، فإن أخيل لن يدرك السلحفاة إلا أن يقطع المسافة الأولى الفاصلة بينهما ثم المسافة الثانية وهكذا إلى ما لا نهاية. – والحجة الثالثة تسمى بالسهم، وهي قائمة على أن الزمان مؤلف من آنات غير متجزئة، وترجع إلى أنه لما كان الشيء في مكان مساوٍ له، فإن السهم في مروقه يشغل في كل آنٍ من آنات الزمان مكانًا مساويًا له، فهو إذن لا يبارح المكان الذي يشغله في الآن غير المتجزء، ومعنى ذلك أنه ساكن غير متحرك وهكذا في كل آن. – والحجة الرابعة تسمى بالملعب وتقوم كذلك على فَرْضِ الزمان مؤلفًا من آنات غير متجزئة، والمكان مركبًا من نقط غير منقسمة، وتلخص كما يلي:
.... ←
→ ....
—....—
لنفرض ثلاثة مجاميع كل منها مؤلف من أربع وحدات أو نقط والثلاثة متوازية في ملعب، الواحد يشغل نصف الملعب إلى اليمين والآخر يشغل نصفه إلى اليسار، والثالث في الوسط، ولنفرض الأول والثاني يتحركان بسرعة واحدة كل منهما إلى الجهة المقابلة بينما الثالث ساكن في مكانه، فإن الواحد منهما يصل إلى نهاية [42]الآخر في زمن هو نصف الزمن الذي يقضيه للوصول إلى نهاية الساكن؛ أي إن الانتقال من إحدى نقط المجموع الساكن إلى النقطة التي تليها يتم في آن هو ضعف الآن الذي يتم فيه الانتقال من إحدى نقط المجموع المتحرك إلى النقطة التي تليها، فتقطع الحركة نفس المسافة (من حيث إن طول المجاميع واحد) في زمن معين، وفي ضعف هذا الزمن فيكون نصف الزمن مساويًا لضعفه وهذا خلف، وإذن فالحركة وهم.
د – ولكن زينون يتجاهل أن كل واحد من المجموعين المتحركين يوفر بحركته نصف المسافة على الآخر، بينما المجموع الساكن يبقيها على حالها، وأن هذا هو سبب الفرق في الزمن، كما أنه يتجاهل أن المكان والزمان والحركة أشياء متصلة، وأنها مع قبولها للقسمة إلى ما لا نهاية ليست مقسمة بالفعل إلى أجزاء غير متناهية، نقول: إنه يتجاهل ولا نرميه بالجهل؛ لأنه لم يقصد إلى نقد المقدار المتصل — والمقدار عند بارمنيدس خاصية من خواص الوجود — بل إلى نقد المقدار المنفصل كما توهمه الفيثاغوريون، فجاءت حججه «لهوًا جديًّا» على حد تعبير أفلاطون،[8] ولكنها جاءت أمرًا جديدًا في الفلسفة فإنه لم يستعمل الجدل عرضًا وطبعًا على ما يتفق لسليقة العقل، وإنما قصد إليه قصدًا، ووضعه في صيغة فنية فكان أول واضع لعلم الجدل، وكانت حججه داعية لتحليل معاني الامتداد، والزمان والمكان والعدد والحركة واللانهاية عند أفلاطون، وبالأخص عند أرسطو.
١٨ – مليسوس
أ – هو إيوني من ساموس كان أمير البحر على عمارتها في انتقاضها على أثينا فانتصر على عمارة بركليس سنة ٤٤٢؛ فكان يجمع بين العلم والعمل كمعظم فلاسفة [43]ذا العصر الأول الذين كانوا يفكرون في الوجود ويشتغلون بالسياسة والاقتصاد، وضع كتابًا «في الطبيعة أي في الوجود» دافع فيه عن مذهب بارمنيدس لا ضد الفيثاغوريين كما فعل زينون؛ بل ضد مواطنيه الإيونيين فهو ممثل المذهب الإيلي في إيونية وآخر رجاله.
ب – وتلخص مناقشته للمذاهب الإيونية القائلة بالكثرة والتغيير كما يلي:
لو كانت الأشياء وكيفياتها حقيقية على ما تبدو في الحس، ولو كان هناك حقًّا ترابٌ وماء ونار وذهب وحديد وأبيض وأسود لوجب أن يبقى كل منها على حاله بدون تغير؛ إذ إن ما يتغير يبطل أن يكون هو هو، وكيف نصدق أن شيئًا هو بارد بعد أن نكون قد صدقنا أنه حار؟! ولو صح التغير لكان معناه أن الوجود ينعدم، وأن اللاوجود يظهر، ولكن الطبيعيين أنفسهم يقولون: إن شيئًا لا يخرج من لا شيء، ولا يعود إلى لا شيء، فقولهم يرتد عليهم، والمعرفة الحسية التي يعتمدون عليها كاذبة فإنها ترينا الوجود كثرة متغيرة، والحق الواضح في العقل أن الوجود واحد متجانس ثابت.
ج – ويتلخص برهانه على هذه القضية في الأقوال الآتية: كل ما يحدث فله مبدأ، وإذن كل ما لا يحدث فليس له مبدأ، وليس الوجود حادثًا وإلا كان حادثًا من اللاوجود وهذا خلف، وإذن ليس للوجود مبدأ، وما ليس له مبدأ فليس له نهاية، وإذن فليس للوجود مبدأ ولا نهاية فهو لا متناهٍ، واللامتناهي واحد فقط؛ إذ يمتنع أن يوجد شيء خارج اللامتناهي، وهو ساكن من حيث إنه لا يوجد مكان خارجه يتحرك إليه، وهو ثابت؛ لأنه إن تغير فقد باين نفسه ولم يعد واحدًا؛ وإذن فالوجود واحد لا متناهٍ ساكن ثابت.[9].
د – وليس في هذه الأقوال من جديد سوى أن مليسوس يجعل الوجود [44]لا متناهيًا، وكان بارمنيدس قد ذهب إلى أنه متناه، وقد اعتقد مليسوس أن المطلق من حيث الزمان أي القديم مطلق كذلك من حيث المكان أي لا متناهٍ فعاد إلى رأي الإيونيين، ولكنه لم يبرهن على صحة الانتقال من المعنى الأول إلى الثاني وأخذ لفظ المبدأ على وجهين فغلط أو غالط؛ إذ إن ما ليس بحادث وليس له مبدأ زماني قد يكون له مبدأ من حيث المقدار أي حد وبداية في المكان، كذلك نراه يخرج من اللاتناهي إلى السكون مع أنه يمكن تصور الوجود اللامتناهي يتحرك في مكانه،[10] ثم هو يفترق عن بارمنيدس في نقطة أخرى هي أنه جرد الوجود من الجسمية الكثيفة ليسلب عنه التجزئة ويصون وحدته دون أن يبين كيف يصح ألا ينقسم اللامتناهي في المكان مهما كان لطيفًا، وهناك فرق آخر يقربه من أكسانوفان هو أنه يضيف للوجود حياة عاقلة فدل بهذا على ميله إلى وجود روحاني أرقى من وجود بارمنيدس.
والآن نظن الوجهات الثلاث التي أشرنا إليها في مفتتح هذا الباب قد توضحت للقارئ، فعرف ماهية كل منها والفرق بينها، وتدرجها من المحسوس إلى المعقول.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س١٠–١٧.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س٢٠–٢٤، وهذا النص دليل على أن الكتاب «في أكسانوفان ومليسوس وغورغياس» المنسوب إلى أرسطو منحول؛ لأنه يضيف إلى شاعرنا جدلًا دقيقًا في المتناهي واللامتناهي والحركة والسكون لو صح لنقض العبارة المذكورة فوق فضلًا عن أنه بعيد من مزاج الشاعر. والكتاب لأرسطوطالي من أهل القرن الأول للميلاد.
أرسطو: المرجع المتقدم.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٥ ص٩٨٦ ع ب س٣٠–٣٢.
«كل موجود فهو موجود.»
محاورة «بارمنيدس» ص١٢٧ (أ)، ١٢٨ (ج).
السماع الطبيعي م٤ ف١ و٣، م٦ ف٢ و٩، ما بعد الطبيعة م٣ ف٤.
في محاورة «بارمنيدس» ص١٣٧ (ب).
انظر أرسطو: السماع الطبيعي م١ ف٣ ص١٨٦ ع ا س١٠–٢٢.
الموضع المذكور. 
 ======
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/الطبيعيون المتأخرون 
  الطبيعيون المتأخرون نشأة العلم والفلسفة
المؤلف: يوسف كرمالسوفسطائيون
[45]
الفصل الرابع
الطبيعيون المتأخرون
١٩ – أنبادوقليس
أ – ندرس في هذا الفصل فلاسفة ثلاثة متعاصرين عادوا إلى معالجة المسألة الطبيعية وهم متأثرون بالإيلية والفيثاغورية، يشتركون في القول بأن أصل الأشياء كثرة حقيقية وأنه لا يوجد تحول من مادة إلى أخرى، وإنما الأشياء تأليفات مختلفة من أصول ثابتة، ويفترقون في تصور هذه الأصول وطرائق انضمامها وانفصالها، هؤلاء الفلاسفة هم أنكساغورس وأنبادوقليس وديموقريطس، ولما كان الأول قد تأخر في نشر آرائه عن الثاني مع أنه أقدم منه [1] وكان من جهة أخرى قد عمر بعده، وتفلسف في أثينا واستقرت فيها الفلسفة منذ ذلك الحين إلى زمن طويل، فقد أخرنا الكلام عليه.
ب – نشأ أنبادوقليس في إغريغنتا وكانت من أعظم مدن صقلية عمرانًا، وفي أسرة من أوسع أسر المدينة ثروة ونفوذًا، وكان هو من أنبغ أهل زمانه، اشتهر بالفلسفة والطب والشعر والخطابة، وقال أرسطو: إنه منشئ علم البيان. أشبه فيثاغورس في كثير من النواحي فكان قوي العاطفة الدينية إلى حد ادعاء النبوة بل الألوهية، واستخدم علمه في سبيل الخير فصدق الناس دعواه، وكانوا يتسابقون إليه جماعات جماعات أينما حل «يسأله البعض أن يهديهم طريق الصلاح، ويطلب إليه آخرون أن يكشف لهم الغيب، ويتوسل إليه غيرهم أن [46]يسمعهم الكلمة التي تشفي المرض » على حد قوله هو، وزاد في احترام الناس له وتعلقهم به أنه كان يعطف على الشعب ويسعى لتحقيق المساواة، ويبذل ماله في الإحسان، فعرض عليه أن يتوج ملكًا على المدينة فأبى، وعاون على إقامة الديموقراطية ودافع عنها، ثم حدته الغيرة على الخير إلى الهجرة، فجاب أنحاء صقلية وإيطاليا الجنوبية وعبر البحر إلى المورة، وقضى هناك فيما يرجح.
ج – لم يحاول أنبادوقليس رد الأشياء إلى مادة أولى واحدة كما فعل الإيونيون ولكنه وضع أصولًا أربعة: الماء والهواء والنار والتراب، فكان أول من اعتبر التراب مبدأ، ولعل ثقل التراب هو الذي منع القدماء من اعتباره كذلك، قال إن هذه الأربعة مبادئ على السواء ليس بينها أول ولا ثانٍ لا تتكون ولا تفسد فلا يخرج بعضها من بعض ولا يعود بعضها إلى بعض، لكل منها كيفية خاصة: الحار للنار والبارد للهواء والرطب للماء واليابس للتراب، فلا تحول بين الكيفيات، ولكن الأشياء وكيفياتها تحدث بانضمام هذه العناصر وانفصالها بمقادير مختلفة على نحو ما يخرج المصور بمزج الألوان صورًا شبيهة بالأشياء الحقيقية، وإنما تجتمع العناصر وتفترق بفعل قوتين كبريين يسميهما المحبة والكراهية،[2] المحبة تضم الذرات المتشابهة عند التفرق، والكراهية تفصل بينها، ويتغلب كل منهما حينًا في الدور الواحد من أدوار العالم دون أن تستقر الغلبة للمحبة، فتسود الوحدة الساكنة، أو للكراهية فتسود الكثرة المضطربة، فيمر العالم بدور محبة تتخلله الكراهية وتحاول إفساده، ثم بدور كراهية تتخلله المحبة وتعمل على إصلاحه، فتارة ترجع الكثرة إلى الوحدة — وهي الكرة الأصلية الإلهية فيها العناصر جميعًا — وطورًا تنتقل الوحدة إلى الكثرة، [47]وتتعاقب الأدوار كل منها كما كان بالتمام إلى ما لا نهاية، والدور الذي نحن فيه الآن تسيطر عليه الكراهية.
د – وتتكون الآلهة والنفوس كما تتكون الأشياء الفاسدة — وهو الوحيد الذي أدخل التراب في تركيب النفس — غير أنها أمزجة يغلب فيها الهواء والنار لذلك كانت ألطف وأدق، فالآلهة الحقة عنده العناصر والمحبة والكراهية، وكذلك تتكون الأجسام الحية: تجتمع العناصر بمقادير معينة بفعل المحبة «فتنبت في الأرض رءوس بدون رقاب، وتظهر أذرع مفصولة عن الأكتاف، وعيون مستقلة عن الجباه»، وتتقارب هذه الأمزجة اتفاقًا على أنحاء متعددة؛ فتكون منها المسوخ، وتكون المركبات الصالحة للحياة؛ فتنقرض الأولى وتبقى الأخرى، فالحياة تعلل بأسباب آلية هي اجتماع العناصر وتأثير البيئة، والحياة واحدة في الأحياء جميعًا لا تختلف إلا بالقلة والكثرة، فللنبات شعور كما للحيوان، ويفسر الإحساس بأنه تقابل الأشباه وإدراك الشبيه للشبيه: تنبعث عن الأشياء أبخرة لطيفة فتلاقي الحواس؛ فإن كانت النسبة في التركيب متفقة في الجهتين دخل البخار المسام وكان الإحساس، وهذا سبب أن الحاسة الواحدة لا تحس ما هو خاص بأخرى، ولهذا السبب أدخل أنبادوقليس التراب في تركيب النفس؛ أي لكي تدرك الأشياء الترابية، أما الفكر فمركزه عند القلب؛ لأن الدم أكمل الأمزجة، واختلاف الناس عقلًا يرجع إلى اختلاف أجزاء الدم في حجمها وطريقة توزعها وتمازجها، وإنما أخذ أنبادوقليس قوله: إن القلب مركز الفكر عن مدرسة الطب في صقلية، وقد مر بنا (١٤–أ) أن ألقميون إمام مدرسة أقروطونا كان يذهب إلى أن مركز الفكر المخ، والنفوس البشرية آلهة خاطئة وقعت في سلطان الكراهية، وقضي عليها أن تهيم ثلاثين ألف سنة بعيدة عن مقر السعداء وأن تتقمص على التوالي جميع الصور الفنية، قال أنبادوقليس: إنه [48]إنه يذكر حيواته الماضية ويعلم أنه في المرحلة الأخيرة يبلغ بعدها إلى مقامه القديم بعيدًا عن الشر والألم، وقد كان فيثاغورس قد قال مثل ذلك عن نفسه، ووسيلة النجاة والتطهير والزهد وتغليب العقل على الحواس، فإن الحواس كثرة وشقاق تخدعنا بأمور زائلة، والعقل وحدة ومحبة، والغاية القصوى العودة للمحبة والوحدة.
هـ – ولسنا ندري كيف تتفق هذه الغاية مع الدور (١٣–ج) ولا كيف تكون العناصر في وقت ما — مع تباينها تباينًا جوهريًّا — كرة متجانسة ثم تفصلها الكراهية مبادئ متباينة ثم تضمها المحبة في كرة متجانسة، ولسنا ندري ماهية المحبة والكراهية، أنتصورهما قوتين روحيتين فنسميهما الخير والشر، أم قوتين طبيعيتين فنسميهما التجاذب والتنافر؟ الفرض الأول يؤيده أن المحبة في رأي أنبادوقليس علة النظام والخير والجمال البادية في العالم، والكراهية علة الاضطراب والشر والقبح،[3] والعلة التي من النوع الأول على الأقل عاقلة بالضرورة، ولكنه في تفسيره أصل الأحياء يصور المحبة تفعل فعلًا آليًّا، والأحياء تتألف اتفاقًا بحيث يترجح الفرض الثاني، ونحن على الحالين بإزاء مذهب ثنائي ناقص قلق ومنشأ هذا القلق تأثر أنبادوقليس بالمذاهب السابقة ومحاولته الملاءمة بينها؛ فقد عني بالعلم الطبيعي على طريقة الإيونيين ولم يؤثر مادة على أخرى بل جمع بين المواد الأربع، إلا أنه خطا خطوة إلى الأمام بفصله العلة عن المادة ووضعها مستقلة، وقد أخذ عن الفيثاغوريين التطهير والتناسخ والدور وفكرة أن الأشياء مركبات بمقادير معينة أي بنسب عددية، وتابع بارمنيدس في القول بالكرة الأصلية، وفي إنكار بعض التغير؛ وهو التغير الكيفي، فتصور حقائق [49]الأشياء أصولًا ثابتة الماهية وتصور التغير تنقل هذه الأصول، فجاء مذهبه مزاجًا من عناصر مختلفة.
٢٠ – ديموقريطس
أ – ولد في أبديرا من أعمال تراقية، وكانت مدينة غنية بناها فريق من الإيونيين بالقرب من مناجم ذهب، وقد ذكر عن نفسه «أن أحدًا من أهل زمانه لم يقم بمثل ما قام من رحلات ولم يَرَ مثل ما رأى من بلدان ولم يستمع إلى مثل ما استمع من أقوال العلماء، ولم يتفوق عليه في علم الهندسة حتى ولا المهندسون المصريون.» وفي مقدمة الذين استفاد بعلمهم رجل اسمه لوقيبوس يرجح أنه ولد في ملطية ورحل إلى إيليا، وأخذ عن زينون ثم جاء أبديرا وأنشأ فيها مدرسة، وهذا كل ما نعرف عنه، لذلك لا يفرد له مكان في تاريخ الفلسفة، وأرسطو نفسه يقرن اسمه دائمًا باسم ديموقريطس تلميذه وصديقه، ويضيف إليهما مذهبًا واحدًا، وعُرف هذا المذهب في القديم من كتب ديموقريطس، وكانت تؤلف موسوعة كبرى في أسلوب تعليمي تناولت أصناف العلوم والفنون — الأخلاق والطبيعة والنفس والطب والنبات والحيوان والرياضيات والفلك والموسيقى والجغرافيا والزراعة والصنائع — ولم يبقَ لنا منها سوى شذرات متفرقة.
ب – ويلوح أن أصل المذهب محاولة التوفيق بين الإيلية والتجربة، وأن لوقيبوس وديموقريطس كانا مقتنعين من جهة بقول الإيليين: إن الوجود كله ملاء، وإن الحركة ممتنعة بدون خلاء، والخلاء لا وجود، من جهة أخرى بأن الكثرة والحركة لا تنكران، ودلتهما التجربة على [50]وجود ذرات مادية غاية في الدقة كالتي تتطاير في أشعة الشمس، وكالذرات الملونة التي تذوب في الماء، والذرات الرائحية التي تتصاعد مع الدخان أو الهواء، ودلتهما التجربة أيضًا على أن اللبن والخشب يرشح منهما الزيت والماء، وأن الضوء يخترق الأجسام الشفافة، وأن الحرارة تخترق جميع الأجسام تقريبًا، فبدا لهما أن في كل جسم مسامَّ خالية يستطيع جسم آخر أن ينفذ منها، وكانت طريقتهما في التوفيق أن قَسَّمَا الوجود الواحد المتجانس عند الإيليين إلى عدد غير متناهٍ من الوحدات المتجانسة غير المنقسمة غير المحسوسة لتناهيها في الدقة، ووضعاها في خلاء غير متناه تتحرك فيه فتتلاقى وتفترق فتحدث بتلاقيها وافتراقها الكون والفساد، وقالا: إنها قديمة من حيث إن الوجود لا يخرج من اللاوجود، وإنها دائمة من حيث إن الوجود لا ينتهي إلى اللاوجود، وإنها متحركة بذاتها، وواحدها الجوهر الفرد، فإنها جميعًا امتداد فحسب أو ملاء غير منقسم، فهي متشابهة بالطبيعة تمام التشابه، وليست لها أية كيفية ولا تتمايز بغير الخصائص اللازمة من معنى الامتداد وهي الشكل والمقدار، أما الشكل فمثل Λ وΝ ومنها المستدير والمجوف والمحدب والأملس والخشن إلى غير ذلك، وأما المقدار فيتفاوت مع إبائه القسمة وخلوه عن الثقل، كذلك يتميز الخلاء الفاصل بينها بالمقدار والشكل، وليس الخلاء عدمًا ولكنه امتداد متصل متجانس يفترق عن الملاء بخلوه من الجسم والمقاومة، ويسمي لوقيبوس وديموقريطس الملاء وجودًا والخلاء لا وجودًا، ويعتبرانهما علتين مادتين على السواء[4] ذلك أنهما ظنا أنه لولا الخلاء لما تمايزت الجواهر، ولما كانت الكثرة، ولامتنعت الحركة، وأن القول بالحركة والكثرة يقتضي حتمًا القول بالخلاء واعتباره مبدأ حقيقيًّا إلى جانب الملأ.
ج – وتفصيل القول في الكون والفساد أن الحركة تعصف بالجوهر منذ القدم وتوجهها إلى كل صوب في الخلاء الواسع، فتتقابل على أنحاء لا تحصى، [51]وتتشابك بنتوآتها في مجاميع هي الموجودات، وإنما تختلف الموجودات باختلاف الجواهر المؤلفة لها شكلًا ومقدارًا ثم باختلاف الجواهر المتشابهة الشكل ترتيبًا ووضعًا بعضها من بعض: الترتيب مثل Λ Ν وΝ Λ والوضع مثل Ι وΗ أو Ζ وΝ[5] بحيث يمكن القول: إن الأشياء هندسة وعدد، ولما تتكون المجاميع تكتسب الثقل والخفة، فالأثقل هو الأكبر حجمًا، والأقل خلاءً يستقر بسهولة في المركز ويتحرك ببطء، والأخف هو الأصغر حجمًا، والأكثر خلاء ينتثر بسهولة نحو محيط المجموع سواء أكان هذا المجموع عالمًا أو شيئًا جزئيًّا في العالم الواحد، وتكتسب سائر الكيفيات المحسوسة من لون وطعم وحرارة وغيرها، فإن هذه الكيفيات تابعة من ناحية لتركيب الأشياء ومسافتها ووضعها، ومن ناحية أخرى لتركيب الأشخاص وتغيرهم من حال إلى حال والشواهد كثيرة،[6] لذلك يقول ديموقريطس: إنها «اصطلاح» أي نسبة حادثة بين الجواهر في الأشياء وفي الحواس، وإنها موضوع معرفة غامضة، أما الجواهر والخلاء فإنها موجودة حقًّا وهي الموضوع الوحيد للمعرفة الحقة.
د – والنفس مادية طبعًا مؤلفة من أدق الجواهر وأسرعها حركة من حيث إن النفس مبدأ الحركة في الأجسام الحية، ومثل هذه الجواهر هي المستديرة التي تؤلف النار ألطف المركبات وأكثرها تحركًا، فالنفس جسم ناري، وهذه الجواهر منتشرة في الهواء يدفعها إلى الأجسام فتتغلغل في البدن كله وتتجدد بالتنفس في كل آن، وما دام التنفس دامت الحياة والحركة،[7] وهي أوفر عددًا في مراكز الإحساس والفكر؛ أي في أعضاء الحواس والقلب والكبد والمخ، فإنها تكتسب [52]الحساسية إذا توافرت، وما دامت حاصلة كلها في البدن دام الشعور، فإذا ما فقد بعضها كان النوم واللاشعور، وإذا فقد معظمها كان الموت الظاهر، وإذا فقدت جميعًا كان الموت الحقيقي أي فناء الشخص، وتحقيق الإدراك الحسي أن بخارات لطيفة تتحلل من الأجسام في كل وقت محتفظة بخصائص الجسم المتحللة منه، فهي صور وأشباه تفعل في الهواء المتوسط بين الشيء والحاسة فعل الخاتم أو الطابع في الشمع، وتتغلغل في مسامِّ الحواسِّ فتدرك، وإنما يختلف انفعالنا بها لاختلاف الجواهر المؤلَّفة للأجسام، فالخشنة منها تؤلف الأجسام الحامضة والمرة، بينما الملساء تؤلف الأجسام الحلوة وهكذا، وأما الفكر فهو الحركة الباطنة التي تحدثها الإحساسات في المخ ليس غير، أو هو الصور المحسوسة ملطفة؛ فإن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة، ولم نخرج عن المادة وإذن فليس للإنسان أن يرجو خلودًا، وإنما سعادته في طمأنينة النفس وخلوها من الخرافات والمخاوف، وتتحقق هذه الطمأنينة بالعلم والتسليم لقانون الوجود والتمييز بين اللذات والتزام الحد الملائم فيها (فإن تجاوز الحد يجر الألم) واجتناب الانفعالات العنيفة.
هـ – فديموقريطس قد مضى بالمذهب الآلي إلى حده الأقصى ووضعه في صيغته النهائية فقال: إن كل شيء امتداد وحركة فحسب ولم يستثنِ النفس الإنسانية كما رأينا ولم يستثنِ الآلهة، فذهب إلى أنهم مركبون من جواهرَ كالبشر إلا أن تركيبهم أدق، فهم لذلك أحكم وأقدر وأطول عمرًا بكثير، ولكنهم لا يخلدون؛ فإنهم خاضعون للقانون العام؛ أي للفساد بعد الكون واستئناف الدور على حسب ضرورة مطلقة ناشئة من «المقاومة والحركة والتصادم» دون أية غائية أو علة خارجة عن الجواهر مثل المحبة والكراهية ودون أية علة باطنة مثل التكاتف والتخلخل ودون أية كيفية، فالمذهب غاية في البساطة ولكنه حافل بالصعوبات، فما هي الضرورة التي يزعمها ديموقريطس لاجتماع الجواهر وتفرقها [53]على نظام مطرد وأنواع ثابتة؟ أليس الأصح أن عالمه عالم اتفاق ومصادفة؟ بل ما هي علة الحركة منظمة كانت أم مضطربة؟ ونحن نفهم أن الثقل غير لازم بالذات من الكمية ولكن سلبه عن الجواهر يسلب عنها الحركة فتبقى في سكون مطلق، ثم كيف تتفاوت الجواهر بالمقدار وتتفق في عدم الانقسام؟ بل كيف يمكن أن يكون عدم الانقسام خاصية أصلية للجوهر، والجوهر امتداد بحت خلو من كل مبدإ يرده للوحدة؟ وما هو الخلاء وكيف يوجد امتداد غير مقاوم؟ وديموقريطس يعتبر المعرفة الحسية نسبية، ويقول: إن المعرفة الحقة في العقل، ولكنه يجعل العقل صدى الحس، ولا يفسر كيف يرتفع العقل فوق الحس ويدرك اللامحسوسات مثل الجواهر والخلاء، وكيف يتفق الإحساس والعقل للطبيعة المادية بما هي مادية؟
٢١ – أنكساغورس
أ – ولد في أقلازومان بالقرب من أزمير من أعمال إيونية في أسرة شريفة، وتلقى العلم في مدرسة أنكسيمانس على ما يرجح، ولما ناهز الأربعين نزح إلى أثينا وكانت قد بلغت مكانة عالية بعد انتصارها على الفرس وصد غارتهم عن العالم اليوناني، وكان بركليس يستقدم إليها الأدباء والعلماء؛ ليجعل منها مركز اليونان في الثقافة والسياسة على السواء، فلما دخلها أنكساغورس دخلت معه الفلسفة لأول مرة، أقام فيها ثلاثين سنة كان في خلالها قطب الحركة الفكرية، ولما آذن نجم بركليس صديقه وولي نعمته بالأفول أصبح هدفًا لكيد الخصوم السياسيين، واتهمه هؤلاء بالإلحاد؛ آملين أن ينالوا من الرجلين جميعًا، واستشهدوا بما كان قد ذهب إليه من أن القمر أرض فيها جبال ووديان، وأن الشمس والكواكب أجرام ملتهبة لا تختلف طبيعتها عن طبيعة الأجسام الأرضية كما [54]يتبين من مقابلة الأحجار المتساقطة من السماء بما عندنا من أحجار، ولم يكن الأثينيون يطيقون مثل هذا القول؛ لاعتقادهم أن كل ما هو سماوي فهو إلهي، فاضطر لمغادرة المدينة وعاد إلى آسيا الصغرى فنزل لمبساقوس ومات فيها.
ب – وهو يعتقد أن الأشياء متباينة في الحقيقة كما تبدو لنا، وأن قسمة الأجسام بالغة ما بلغت تنتهي دائمًا إلى أجزاء مجانسة للكل: تنتهي إلى لحم في اللحم، وإلى عظم في العظم فلا تلاشي أبدًا طبيعة الشيء المقسم، وعلى ذلك فلا ترد الأشياء إلى مادة واحدة أو بضعة مواد معينة ومن باب أولى إلى تنوع الكمية والحركة، على أن الذي حدا بالطبيعيين إلى مواقفهم هو المشاهد من تحول الأشياء بعضها إلى بعض وضرورة تفسير هذا التحول وأنكساغورس يعلم ذلك — يعلم مثلًا أن الخبز الذي نأكله والماء الذي نشربه ينميان جميع أجزاء البدن على السواء من دم ولحم وعظم وشعر وظفر إلخ — ولكنه يأبى أن يتابعهم ويقول: إذا كان الوجود لا يخرج من اللاوجود — باتفاقهم جميعًا — «فكيف يخرج الشعر من اللاشعر واللحم مما ليس لحمًا؟» أمامنا ثلاث قضايا كبرى: الأشياء متباينة بالذات، ولا يخرج الوجود من اللاوجود، والكل يتولد من الكل (أي شيء يتولد من أي شيء) فإذا أردنا الاستمساك بها جميعًا قلنا: إن الأشياء موجودة بعضها في بعض على ما هي، وإن الكل في الكل؛ أي إن الوجود مكون من مبادئ لا متناهية عددًا وصغرًا هي طبائع أو جواهر مكيفة في أنفسها تجتمع في كل جسم بمقادير متفاوتة، فيتحقق بهذا التفاوت الكون والفساد ويتعين لكل جسم نوعه بالطبيعة الغالبة فيه بحيث يكون كل جسم عالمًا لا متناهيًا يحوي الطبائع على اختلافها كلًّا منها بمقدار فتختلف الظواهر والأسماء، وإذن فالماء والخبز يحويان مبادئ لا متناهية في الصغر عظمية ولحمية ودموية، بل إن المبادئ جميعًا تلتقي في كل ذرة عظمية ولحمية ودموية وغيرها تقع تحت [55]الحس فلا يوجد جسم محسوس متجانس مهما دق بل المتجانس الطبائع الأولى؛ لذلك سميت بالمتجانسات («متشابهة الأجزاء» عند الشهرستاني) وهي أدق من أن ينالها الحس، ولا يوجد كل هو أبيض خالص أو أسود أو حلو أو لحم أو عظم ولكن ما يغلب في الشيء هو ما يلوح أنه طبيعته فيعرف به ويتميز عما عداه، فالكون والفساد استحالة شيء إلى شيء بأن يزيد بعض الطبائع فيظهر للحواس أو ينقص فيخفى عنها، وبعبارة أخرى «الكون ظهور عن كمون» (الشهرستاني) والفساد كمون بعد ظهور دون أي تغير في الكيفية.[8]
ج – والطبائع قديمة ولكنها ليست متحركة بذاتها، وليس لها ما يجعلها تنتظم من تلقاء نفسها، وقد كانت في الأصل مختلطة أشد اختلاط، وكان المزاج الأول متساويًا غاية التساوي لا يتميز فيه شيء من شيء على ما ارتأى أنكسيمندريس حين وضع اللامتناهي ثم حدثت بفعل فاعل الحركة التي ميزتها ونظمتها، وليس هذا الفاعل الاتفاق؛ فما الاتفاق سوى لفظ نستر به عجزنا عن اكتشاف العلة — وليس هذا الفاعل القدر؛ فما القدر سوى لفظ أجوف اخترعه الشعراء — إنما الفاعل العقل «ألطف الأشياء وأصفاها، بسيط مفارق للطبائع كلها؛ إذ لو كان ممتزجًا بشيء آخر أيًّا كان لشابه سائر الأشياء، ولما استطاع وهو ممتزج أن يفعل بنفس القدرة التي يفعل بها وهو خالص، عليم بكل شيء، قدير على كل شيء، متحرك بذاته» حرك المزاج الأول في إحدى نقطه فامتدت الحركة واتسعت في دوائر متتابعة حتى عمت الكل وانفصلت الأجرام السماوية عن المركز (الأرض) بالحركة الأولى، وترتبت الأشياء كل في مكانه، الخفيف إلى أعلى، والثقيل إلى أسفل، وستظل الأجرام السماوية مستقلة حتى تنفد القوة التي [56]تستبقيها في مداراتها فتعود إلى المركز، أما الأجسام الحية فقد أتتها الحياة بمشاركة العقل، والعقل نفس تصدر عنها نفوس.
د – ولسنا نناقش أنكساغورس فيما يثير مذهبه من إشكالات أهمها وضعه عددًا لا متناهيًا من الطبائع في الجسم المتناهي، ونقتصر على ملاحظة أنه في تفصيل التكوين يفسره تفسيرًا آليًّا مثل من تقدمه من الطبيعيين[9] حتى إنه يعلل رقي الحيوان على النبات بأنه طليق غير مرتبط بالأرض، ورقي الإنسان على الحيوان بأن له يدين وأن اليد خير الآلات ونموذجها دون أن يضيف أي أثر للعقل الذي قال به علة محركة منظمة بحيث يمكن وصف مذهبه بأنه «آلية كيفية»، الحق أنه لم يفطن لخصب هذه الفكرة ولم يوفق لاستغلالها، ولكنها فكرة جليلة كافية لأن تجعل له مكانًا خاصًّا في هذا الدور من الفلسفة قال بها «فبدا كأنه الوحيد الذي احتفظ برشده بإزاء هذيان سلفائه»[10] واهتزت لها نفس أفلاطون وانبعثت إلى تفكير بعيد المدى،[11] وإذا أضفنا إليها تصور الوجود طبائع وماهيات؛ أي أشياء عقلية ومعقولة، عددنا أنكساغورس طليعة الحركة السقراطية والفلسفة الروحية.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٣ ص٩٨٤ ع ا س١٢.
وفي الكتب العربية أيضًا: المحبة والغلبة، والمحبة والعدوان.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٤ ص٩٨٥ س١–١٠.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٤ ص٩٨٥ ع ب س٤–٢٠ وكتاب الكون والفساد م١ ف٨ ص٣٢٤ ع ب س٢٥–٣٥.
أرسطو: ما بعد الطبيعة: الموضع المتقدم.
أرسطو: الكون والفساد م١ ف٢.
أرسطو: كتاب النفس م١ ف٢ ص٤٠٣ ع ب إلى ص٤٠٤ ع١.
أرسطو: السماع الطبيعي م١ ف٤ كله، الكون والفساد م١ ف١ ص٣١٤ ع ا س١٩–٣٠، ما بعد الطبيعة م١ ف٣ ص٩٨٤ ع ا س١١–١٦.
أفلاطون: فيدون ص٩٨-٩٩، أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٤ ص٩٨٥ ع ا س١٨–٢٢. وانظر فيما بعد عدد ٣٤–١.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٣ ص٩٨٤ ع ب س١٥–٢٠.
فيدون: ص٩٧ وما بعدها.
  =======
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/السوفسطائيون 

 السوفسطائيون نشأة العلم والفلسفة
المؤلف: يوسف كرمسقراط
[57]
الفصل الخامس
السوفسطائيون
٢٢ – نشوء السوفسطائية
أ – بالرغم مما ذكرنا من عناية الفيثاغوريين بالأخلاق، والإيليين بالمبادئ العقلية والجدل، فإن الفكر اليوناني كان في هذا الدور الأول متجهًا نحو العالم الخارجي مستغرقًا فيه، أما العالم الداخلي الذي هو مصدر الأخلاق وموطنها، وأما العقل الذي هو مصدر المعرفة ومستقرها، فلم يُعْنَ بهما بالذات، ولكنه لم يلبث طويلًا حتى طرأت عليه أحوال ساقته إلى الاشتغال بهذه الناحية من الفلسفة، فبذل فيها نشاطًا عظيمًا وذهب في مسائلها كل مذهب، فكانت النتيجة وضع المنطق والفلسفة الخلقية والسياسية؛ ذلك أنه بعد أن دحرت أثينا الفرس وحفظت لليونان استقلالهم وعقليتهم مضى هؤلاء يستكملون أسباب الحضارة بهمم جديدة، ونبغ فيهم العلماء والشعراء والفنانون والمؤرخون والأطباء والصناع، وقويت الديموقراطية في جميع المدن، وتعاظم التنافس بين الأفراد، فزادت أسباب النزاع أمام المحاكم الشعبية، وشاع الجدل القضائي والسياسي، فنشأت من هاتين الناحيتين الحاجة إلى تعلم الخطابة وأساليب المحاجة واستمالة الجمهور، ووجد فريق من المثقفين المجال واسعًا لاستغلال مواهبهم فانقلبوا معلمي بيان، وهؤلاء هم السوفسطائيون؛ ملئُوا النصف الثاني من القرن الخامس.
ب – وكان اسم «سوفيست» يدل في الأصل على المعلم في أي فرع كان من العلوم والصناعات، وبنوع خاص على معلم البيان، ثم لحقه التحقير [58]سقراط وأفلاطون؛ لأن السوفسطائيين كانوا مجادلين مغالطين وكانوا متجرين بالعلم، أما الجدل فقد وقفوا عليه جهدهم كله، خرجوا من مختلف المدارس الفلسفية لا يرمون لغير تخريج تلاميذ يحذقونه، وكانوا يفاخرون بتأييد القول الواحد ونقيضه على السواء، وبإيراد الحجج الخلابة في مختلف المسائل والمواقف، ومن كانت هذه غايته فهو لا يبحث عن الحقيقة، بل عن وسائل الإقناع والتأثير الخطابي، ولم يكن ليتم لهم غرضهم بغير النظر في الألفاظ ودلالاتها، والقضايا وأنواعها، والحجج وشروطها، والمغالطة وأساليبها، فخلفوا في هذه الناحية من الثقافة أثرًا حقيقًا بالذكر، أما سائر العلوم فكانوا يلمون بها إلمامًا يساعدهم على استنباط الحجج والمغالطات وعلى التظاهر بالعلم، فتناولوا بالجدل المذاهب الفلسفية المعروفة، وعارضوا بعضها ببعض، وتطرق عبثهم إلى المبادئ الخلقية والاجتماعية، فجادلوا في أن هناك حقًّا وباطلًا وخيرًا وشرًّا وعدلًا وظلمًا بالذات، وأذاعوا التشكك في الدين، فسخروا من شعائره واختلقوا على آلهته الأقاويل، ومجدوا القوة والغلبة، وكان الأمر إلى الديموقراطية تتعدد فيها القوانين وتتناسخ فيدخل على النفوس أن القانون والحق ما يريده القوي.
ج – وأما اتجارهم بالعلم فقد كان شائنًا حقًّا؛ كانوا يتنقلون بين المدن يطلبون الشباب الثري ويتقاضونه الأجور الوفيرة، وكان هذا الشباب يهرع إليهم ليتقوى بالعلم فوق ما توفر له من أسباب الغلبة كالمال والعصبية، فيستمع إلى خطبهم العلنية ودروسهم الخاصة، فأصابوا مالًا طائلًا وجاهًا عريضًا، ولكن اليونان كانوا يستقبحون أن يباع العلم ويشترى، وكانوا يفهمون المدرسة على أن التلاميذ يفدون على المعلم يقيم في مكان دائم، ولا يبذلون من المال إلا الضروري لحاجات المدرسة، فعكس السوفسطائيون الآية وتنزلوا بالعلم إلى مستوى الحرف والصنائع، فلحقتهم الزراية، لم يأخذوا بالعلم على أنه معرفة الحقيقة، ولم يكترثوا [59]لقيمته الذاتية ولا لفطرة العقل التي تدفعه لطلب الحق، بل استعملوا العلم وسيلة لجر منفعة غريبة عن العلم، وهزءوا من العقل، فكانوا معلمين وخطباء ولم يكونوا حكماء، هذا هو الموقف الشاذ الأثيم الذي جعل اسمهم سبة على مر الأجيال.
وأشهرهم اثنان: بروتاغوراس وغورغياس.
٢٣ – بروتاغوراس
أ – ولد في أبديرا وعرف فيلسوفها الكبير ديموقريطس، وبعد أن طاف أنحاء إيطاليا الجنوبية واليونان يلقي فيها الخطب البليغة قدم أثينا حوالي سنة ٤٥٠ ولم تطل إقامته فيها لأنه كان قد نشر كتابًا أسماه «الحقيقة» وردت في رأسه هذه العبارة: «لا أستطيع أن أعلم إن كان الآلهة موجودين أم غير موجودين فإن أمورًا كثيرة تحول بيني وبين هذا العلم أخصها غموض المسألة وقصر الحياة.» فَاتُّهِمَ بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام وأحرقت كتبه علنًا ففر هاربًا ومات غرقًا في أثناء فراره.
ب – وقد وصلت إلينا من الكتاب المذكور عبارة أخرى هي قوله: «الإنسان مقياس الأشياء جميعًا، هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس لا وجود ما لا يوجد.» وشرحها أفلاطون كما يلي، قال:[1] يتبين معناها بالجمع بين رأي هرقليطس في التغير المتصل، وقول ديموقريطس إن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة فيخرج منهما «أن الأشياء هي بالنسبة إليَّ على ما تبدو لي، وهي بالنسبة إليك على ما تبدو لك، وأنت إنسان وأنا إنسان» فالمقصود بالإنسان هنا الفرد من حيث هو كذلك لا الماهية النوعية، ولما كان الأفراد يختلفون سنًّا وتكوينًا وشعورًا، وكانت الأشياء تختلف وتتغير، فإن الإحساسات تتعدد بالضرورة [60]وتتناقض: «أليس يحدث أن هواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش الآخر، ويكون خفيفًا على الواحد عنيفًا على الآخر؟ فماذا عسى أن يكون في هذا الوقت الهواء في ذاته؟ هل نقول: إنه بارد أم نقول: إنه ليس باردًا؟ أم نسلم أنه بارد عند الذي يرتعش، وأنه ليس ببارد عند الآخر؟»[2] «وإذن فلا يوجد شيء هو واحد في ذاته وبذاته، ولا يوجد شيء يمكن أن يسمى أو يوصف بالضبط؛ لأن كل شيء في تحول مستمر» فما نحسه هو موجود على النحو الذي نحسه وما ليس في حِسِّنَا فهو غير موجود، وعلى ذلك تبطل الحقيقة المطلقة لتحل محلها حقائق متعددة بتعدد الأشخاص وتعدد حالات الشخص الواحد، ويمتنع الخطأ؛ إذ يمتنع أن نتصور غير ما نتصور في وقت ما، والنتيجة المنطقية أن ما يصدق على المعرفة يصدق أيضًا على العمل، وأن الفرد مقياس النفع والضر والخير والشر والعدل والظلم، غير أن هذا لا يعني ترك الأمور فوضى وإنكار الحكمة والحكيم، فإن من التصورات ما بعضه «خير» من بعض، فالطبيب حكيم إذ يستخدم العقاقير لاستبدال تصورات الصحيح بتصورات المريض، والأولى «خير» من الثانية، والسوفسطائي أو تلميذه حكيم؛ إذ يحدث في السياسة مثل هذا الانقلاب، فما يسمى حقًّا في العمل هو النافع في وقت معين وظروف معينة[3].
ج – ويتابع أرسطو أفلاطون في تأويل عبارة بروتاغوراس[4]، على أن لأفلاطون محاورة اسمها «بروتاغوراس» أقدم من «تيتياتوس» يصور فيها السوفسطائي حيًّا يرزق غير شاكٍّ لا كثيرًا ولا قليلًا بينما هو يقول عنه في المحاورة الأخرى: إنه مات من زمن طويل، ويورد «مذهبه» على أنه «رأي خاص» [61]يختلف عما كان يعلنه للجمهور، ومما يلاحظ أيضًا أن بروتاغوراس علل توقفه عن القول بالآلهة بصعوبة المسألة من جهة، وبقصر العمر من جهة أخرى، ولم يقل: «الآلهة موجودون بالإضافة إلى من يؤمن بهم وغير موجودين بالإضافة إلى من ينكرهم»، لهذا كله يمكن الارتياب في أن يكون بروتاغوراس قد ذهب إلى هذا الحد من الشك ويبقى أن «مذهبه» يمثل النتيجة المحتومة لمذهب هرقليطس، وأن أفلاطون اتخذ اسم بروتاغوراس عنوانًا لها، وكل قصده أن يبرزها في صورة قوية.
٢٤ – غورغياس
أ – ولد في لونثيوم من أعمال صقلية، وأخذ العلم عن أنبادوقليس واشتغل بالطبيعيات مثله، وعني باللغة والبيان؛ فكان أفصح أهل زمانه وأبلغهم، قدم أثينا سنة ٤٢٧ يستنصرها باسم مدينته على أهل سراقوصة، فخلب ألباب الأثينيين ببلاغته، ويصوره أفلاطون في الحوار المعنون باسمه مفاخرًا بمقدرته على الإجابة عن أي سؤال يلقى عليه، مات في تساليا، وقد قاربت سنه المائة أو جاوزتها وعظم صيته وضخمت ثروته.
ب – وضع كتابًا «في اللاوجود» قصد به إلى التمثيل لفنه والإعلان عن مقدرته بالرد على الإيليين والتفوق عليهم في الجدل، وتتلخص أقواله في قضايا ثلاث؛ الأولى: لا يوجد شيء. الثانية: إذا كان هناك شيء فالإنسان قاصر عن إدراكه. الثالثة: إذا فرضنا أن إنسانًا أدركه فلن يستطيع أن يبلغه لغيره من الناس. أما عن الأولى فيقول: اللاوجود غير موجود من حيث إنه لا وجود، والوجود غير موجود كذلك؛ فإن هذا الوجود إما أن يكون قديمًا أو حادثًا، فإن كان قديمًا فهذا يعني أنه ليس له مبدأ وأنه لا متناهٍ ولكنه محوي بالضرورة [62]في مكان، فيلزم أن مكانه مغاير له وأعظم منه، وهذا يناقض كونه لا متناهيًا وإذن فليس الوجود قديمًا، أما إن كان حادثًا فإما أن يكون قد حدث بفعل شيء موجود أو بفعل شيء غير موجود، ففي الفرض الأول لا يصح أن يقال: إنه حدث؛ لأنه كان موجودًا في الشيء الذي أحدثه فهو إذن قديم، وفي الفرض الثاني الامتناع واضح. وأما عن القضية الثانية فإنه يقول: لكي نعرف وجود الأشياء يجب أن يكون بين تصوراتنا وبين الأشياء علاقة ضرورية هي علاقة المعلوم بالعلم؛ أي أنْ يكون الفكر مطابقًا للوجود وأن يوجد الوجود على ما نتصوره، ولكن هذا باطل فكثيرًا ما تخدعنا حواسنا وكثيرًا ما تركب المخيلة صورًا لا حقيقة لها. وأما عن القضية الثالثة فترجع حجته إلى أن وسيلة التفاهم بين الناس هي اللغة، ولكن ألفاظ اللغة إشارات وضعية؛ أي رموز، وليست مماثلة للأشياء المفروض علمها، فكما أن ما هو مدرك بالبصر ليس مدركًا بالسمع والعكس بالعكس، فإن ما هو موجود خارجًا عنا مغاير للألفاظ، فنحن ننقل للناس ألفاظنا ولا ننقل لهم الأشياء، فاللغة والوجود دائرتان متخارجتان[5].
ج – هذا مثال من عبث السوفسطائيين، ومهما يُقَلْ من أنهم أخرجوا الثقافة من المدارس الفلسفية ونشروها في الجمهور وأنهم مهدوا للمنطق وللأخلاق؛ فقد كادوا يقضون على الفلسفة لولا أن أقام الله سقراط ينتشلها من هذه الورطة المهلكة.
انظر الكتاب المنسوب إلى أرسطو: «في مليسوس وأكسانوفان وغورغياس» ف٥ و٦. ويسمي الإسلاميون موقفه بالعنادية: ما من قضية إلا ولها معارضة بمثلها قوة. تصنيف:
في محاورة «تيتياتوس» ص١٥٢.
لهذا دعا الإسلاميون مذهبه بالعندية: رأي كل فرد حق «عنده» وبالقياس إليه.
محاورة «تيتياتوس» ص١٦٦–١٦٨.
ما بعد الطبيعة م٤ ف٥.
====
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الأول/سقراط
 المؤلف: يوسف كرمالباب الثاني:أفلاطون
[63]
الفصل السادس
سقراط
٢٥ – حياته
أ – نحن نعلم أن سقراط ولد في أثينا وعلِّم فيها واتهم بالإلحاد وحكم عليه بالإعدام، ونعلم أنه أثار من الإعجاب والعداوة في آنٍ واحد ما لا يتفق إلا للرجال الممتازين، وأن أثره كان من القوة بحيث إن اسمه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين: ما قبله، وما بعده، فإذا أردنا أن نصور شخصيته وأن نقيد آراءه — وهو لم يُعْنَ بالكتابة قط — اعترضنا تضارب الروايات وتباين المدارس الآخذة عنه،[1] وأشهر الروايات ثلاث صادرة عن ثلاثة معاصرين هم: أرسطوفان وأفلاطون وأكسانوفون، أما الأول فشاعر هزلي يقوم فنه على الهزؤ والهجو، فليس من الحكمة أن نعول على كلامه، وسنعود إليه بعد قليل. وأما أكسانوفون فلم يكن من أخصاء سقراط حكم عليه بالنفي ثلاثين سنة قبل محاكمة سقراط بسنتين، ولما عاد كان أفلاطون قد نشر مؤلفاته «السقراطية»،[2] فشرع هو يكتب «مذكرات سقراط» واضعًا الأحاديث متأثرًا بناحية خاصة من نواحي الفيلسوف هي هذه البساطة المعروفة عنه، فغلا في تصويرها وأبلغها حد التبذل، فأخرج لنا صورة تافهة لا تفسر ما كان لسقراط من خطر، فلا يبقى سوى أفلاطون نلتمس عنده ترجمة لسقراط وهو تلميذه الأمين لزمه طوال السنين العشر الأخيرة، وعرف [64]التلاميذ القدماء وشهد المحاكمة واختلف إليه في سجنه وحفظ له أجمل الذكرى، ولكن كتب أفلاطون محاورات يتوارى فيها وراء شخص سقراط، يستخدمه لأغراضه وينطقه بأفكاره على ما يفعل مؤلف القصص التمثيلي، فكيف السبيل إلى تبين الحقيقة من الخيال والتمييز بين ما لأفلاطون وما لسقراط من آراء؟ المسألة دقيقة، ونعتقد أن المراجع المأمونة هنا المؤلفات الأولى فهي قريبة العهد بسقراط، وغرضها الرواية والمحاكاة يضاف إليها الصفحات التاريخية في «فيدون» وبعض مواضع من المؤلفات الأخرى، ثم إن لأرسطو نصوصًا قليلة، ولكنها صريحة تعين على تصوير المذهب.
ب - اشتد بسقراط الميل للحكمة في سن مبكرة فأخذ يغذي عقله ويهذب نفسه؛ لأنه فهم الحكمة على أنها كمال العلم لكمال العمل، فمن الناحية العقلية أفاد من مناهج السوفسطائيين ولم يأخذ بشكوكهم ونظر في الطبيعيات والرياضيات، ولم يطل النظر؛ لبعدها عن العمل فضلًا عن تناقض الطبيعيين فيما بينهم، واقتنع بأن العلم إنما هو العلم بالنفس لأجل تقويمها، واتخذ شعارًا له كلمة قرأها في معبد دلف هي «اعرف نفسك بنفسك.» ومن الناحية الخلقية كان يغالب مزاجه الحاد ويقسو على جسمه القوي؛ ليروضه على طاعة العقل، فلما تم له بعض ما كان يبتغي طلع على الأثينيين يخوض معهم فيما كان يثيره السوفسطائيون من مسائلَ أدبيةٍ وخلقيةٍ واجتماعيةٍ، والأثينيون يقبلون عليه رغم دمامة خلقته معجبين بحديثه البسيط البليغ معًا وبقوة عارضته وشدة مراسه في الجدل، ولم يكن له مدرسة بمعنى الكلمة بل كان يجتمع بالناس أينما اتفق، فيجادل أو يخطب أو يشرح الشعراء، وكانت له مع ذلك حلقة من الإخوان والمريدين منهم الأثيني ومنهم الغريب يختلف إلى أثينا من حين إلى حين؛ ليراه ويستمع إليه – منهم حديث العهد بالفلسفة، ومنهم المعروف بانتمائه لمدرسة أخرى، وكان يؤثر التحدث إلى [65]الشباب يصلح ما أفسد السوفسطائيون من أمرهم ويبصرهم بالحق والخير؛ ليهيئ للبلد مستقبلًا طيبًا على أيديهم. وحدث أن سأل أحد مريديه كاهنة دلف الناطقة بوحي أبولون: «هل يوجد رجل أحكم من سقراط؟» فكان الجواب بالسلب، فعجب له سقراط، ولم يكن يرى في نفسه شيئًا من الحكمة، وأراد أن يستبين غرض الإله فطفق يمتحن الشعراء والخطباء والفنانين والسياسيين؛ ليتحقق إن كان أحكم منهم ويكشف عن ماهية حكمته، كان يسألهم في حلقات واسعة تضم أشتات الناس فيما حذقوه من فنهم فلا يلبث أن يتبين وأن يبين لهم أنهم لا يعلمون شيئًا، وأنهم إنما يصدرون عن مجرد ظن أو عن إلهام إلهي وكلاهما مباين للعلم،[3] وخرج من هذا الامتحان الطويل بأن مراد الإله هو أن حكمته قائمة في علمه بجهله، بينا غيره جاهل يدعي العلم، فمضى في مهمته يبذل الحكمة بلا ثمن وهو يعتقد أنه يحمل في عنقه أمانة سماوية، وأن الله أقامه مؤدبًا عموميًّا مجانيًّا يرتضي الفقر ويرغب عن متاع الدنيا؛ ليؤدي هذه الرسالة الإلهية، وكان إلى جانب هذا وطنيًّا صادقًا وجنديًّا باسلًا، خدم في الجيش ضمن المشاة واشترك في حربين دامت الأولى من سنة ٤٣٢ إلى سنة ٤٢٩، ووقعت الثانية سنة ٤٢٢ وتوسطتهما موقعة سنة ٤٢٤، فدل في كل فرصة على رباطة جأش وشجاعة وصبر على مكاره الجندية، ونجى من الموت ألفبيادس في إحدى المعارك وأكسانوفون في أخرى، وأصابته القرعة فدخل مجلس الشيوخ، وكان عضوًا في لجنته الدائمة سنة ٤٠٦ فعرف بالنزاهة واستقلال الرأي بين الديموقراطيين والأرستقراطيين، وكانت له مواقف مشهودة جهر فيها بالحق والعدل مستهدفًا للخطر صامدًا للهياج، وما أن انقضت مدة انتخابه حتى عاد إلى سابق أمره من البحث والإرشاد إلى أن بلغ السبعين.[4] [66]
٢٦ – فلسفته:
أ - انتهج سقراط منهجًا جديدًا في البحث والفلسفة، أما في البحث فكان له مرحلتان «التهكم والتوليد»: ففي الأولى كان يتصنع الجهل ويتظاهر بتسليم أقوال محدثيه، ثم يلقي الأسئلة ويعرض الشكوك شأن من يطلب العلم والاستفادة بحيث ينتقل من أقوالهم إلى أقوال لازمة منها، ولكنهم لا يسلمونها؛ فيوقعهم في التناقض، ويحملهم على الإقرار بالجهل، وهذا ما يسمى بالتهكم السقراطي أي السؤال مع تصنع الجهل[5] أو تجاهل العالم، وغرضه منه تخليص العقول من العلم السوفسطائي — أي الزائف — وإعدادها لقبول الحق، وينتقل إلى المرحلة الثانية فيساعد محدثيه بالأسئلة والاعتراضات مرتبة ترتيبًا منطقيًّا على الوصول إلى الحقيقة التي أقروا أنهم يجهلونها فيصلون إليها وهم لا يشعرون ويحسبون أنهم استكشفوها بأنفسهم، وهذا هو التوليد — أي استخراج الحق من النفس — وكان سقراط يقول في هذا المعنى: إنه يحترف صناعة أمه — وكانت قابلة — إلا أنه يولد نفوس الرجال[6]. والأمثلة كثيرة في محاورات أفلاطون.
ب - وأما في الفلسفة فكان يرى أن لكل شيء طبيعة أو ماهية هي حقيقته يكشفها العقل وراء العوارض المحسوسة ويعبر عنها بالحد، وأن غاية العلم إدراك الماهيات أي تكوين معان تامة الحد، فكان يستعين بالاستقراء، ويتدرج من الجزئيات إلى الماهية المشتركة بينها، ويرد كل جدل إلى الحد والماهية، فيسأل: ما الخير وما الشر، ما العدالة وما الظلم، ما الحكمة وما الجنون، ما الشجاعة وما الجبن، ما التقوى وما الإلحاد؟ وهكذا، فكان يجتهد في حد الألفاظ والمعاني [67]حدًّا جامعًا مانعًا، ويصنف الأشياء في أجناس وأنواع؛ ليمتنع الخلط بينها، في حين كان السوفسطائيون يستفيدون من اشتراك الألفاظ، وإبهام المعاني، ويتهربون من الحد الذي يكشف المغالطة، فهو «أول من طلب الحد الكلي طلبًا مطردًا وتوسل إليه بالاستقراء، وإنما يقوم العلم على هاتين الدعامتين، يكتسب الحد بالاستقراء، ويركب القياس بالحد، فالفضل راجع إليه في هذين الأمرين.»[7]
ولقد كان لاكتشافه الحد والماهية أكبر الأثر في مصير الفلسفة؛ فقد ميز بصفة نهائية بين موضوع العقل وموضوع الحس، وغير روح العلم تغييرًا تامًّا؛ لأنه إذ جعل الحد شرطًا له قضى عليه أن يكون مجموعة ماهيات، ونقله من مقولة الكمية؛ حيث استبقاه الطبيعيون والفيثاغوريون إلى مقولة الكيفية، فهو موجد «فلسفة المعاني» أو الماهيات المتجلية عند أفلاطون وأرسطو والتي ترى في الوجود مجموعة أشياء عقلية ومعقولة.
ج - سبقت الإشارة إلى أنه لم يحفل بالطبيعيات والرياضيات، ولم يكن موقفه بإزاء النظريات العلمية ليختلف كثيرًا عن موقف السوفسطائيين، فآثر النظر في الإنسان وانحصرت الفلسفة عنده في دائرة الأخلاق[8] باعتبارها أهم ما يهم الإنسان، وهذا معنى قول شيشرون: إن سقراط أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ أي إنه حول النظر من الفلك والعناصر إلى النفس، وتدور الأخلاق على ماهية الإنسان، وكان السوفسطائيون يذهبون إلى أن الطبيعة الإنسانية شهوة وهوى، وأن القوانين وضعها المشرعون لقهر الطبيعة، وأنها متغيرة بتغير العرف والظروف فهي نسبية غير واجبة الاحترام لذاتها، ومن حق الرجل القوي بالعصبية أو بالمال أو بالبأس أو بالدهاء أو بالجدل أن يستخف بها أو ينسخها [68]ويجري مع الطبيعة، فقال سقراط: بل الإنسان روح وعقل يسيطر على الحس ويدبره، والقوانين العادلة صادرة عن العقل ومطابقة للطبيعة الحقة وهي صورة من قوانين غير مكتوبة رسمها الآلهة في قلوب البشر، فمن يحترم القوانين العادلة يحترم العقل والنظام الإلهي، وقد يحتال البعض في مخالفتها بحيث لا يناله أذى في هذه الدنيا ولكنه مأخوذ بالقصاص العدل لا محالة في الحياة المقبلة، والإنسان يريد الخير دائمًا ويهرب من الشر بالضرورة، فمن تبين ماهيته وعرف خيره بما هو إنسان أراده حتمًا، أما الشهواني فرجل جهل نفسه وخيره، ولا يعقل أنه يرتكب الشر عمدًا، وعلى ذلك فالفضيلة علو والرذيلة جهل، وهذا قول مشهور عن سقراط يدل على مبلغ إيمانه بالعقل وحبه للخير، وإن كان فيه إسراف فما أجمله من إسراف!.
د - ولا شك أن سقراط كان متأثرًا بالأرفية المندمجة في الفيثاغورية، وأن ما بسطه أفلاطون في محاورته «أوطيفرون» من رأي في الدين يرجع لمعلمه، ونحن نقرأ فيها أن سقراط يأبى أن يصدق ما يروى عن شهوات الآلهة وخصوماتهم وإلا انهار الدين من أساسه، ولم نعد نعلم أي الأعمال يروق في أعين الآلهة وأيها لا يروق، ولا إن كان العمل الحسن عند أحدهم لا يعد مرذولًا عند غيره، ويحد الدين بأنه تكريم الضمير النقي للعدالة الإلهية لا تقديم القرابين وتلاوة الصلوات مع تلطخ النفس بالإثم، كذلك كان يعتقد أن الآلهة يرعوننا وأنهم عينوا لكل منا مهمة في هذه الدنيا، وكان يؤمن بالخلود ويعتقد أن النفس متمايزة من البدن فلا تفسد بفساده بل تخلص بالموت من سجنها وتعود إلى صفاء طبيعتها، وليس يهمنا كثيرًا أن نقف على شروحه وأدلته؛ فقد اصطنعها أفلاطون بلا ريب وزاد عليها، وليس من غضاضة على سقراط أن يفنى مجهوده في مجهود أفلاطون، فحسبه أنه باعث الفلسفة وموجهها وجهتها الروحية وشهيدها الأمين. [69]
٢٧ – محاكمته ومماته:
أ - إذا كان منهجه قد حشد حوله جماهير الأثينيين وأفاده شهرة واسعة؛ فقد جلب عليه سخط هؤلاء الشعراء والخطباء والسياسيين الذين كانوا يقعون فريسة بين يديه يعبث بهم في الجدل، ويظهر الناس على فراغ رءوسهم وبطلان دعاواهم، وأقدم طعن وجه إليه فيما نعلم رواية «السُّحُب» لأرسطوفان يصوره فيها ذائع الصيت عظيم النفوذ — وكان سقراط حينذاك في السابعة والأربعين — صاحب مدرسة يعيش فيها التلاميذ عيشة مشتركة في فقر وقذارة، ويدرسون عليه الهندسة والطبيعة والفلك والآثار العلوية والجفرافيا وأعماق الأرض والكائنات الحية والبيان والنحو والعروض، ويمثله مرفوعًا في الفضاء يرصد السماء ويعزو إليه القول: إن الهواء مبدأ الأشياء ومبدأ الفكر، ويتهمه بالكفر بآلهة المدينة وبتعليم التلاميذ تغليب الباطل على الحق، ويعلن أن القصاص العادل إحراق المدرسة وقتل صاحبها والتلاميذ جميعًا، فأرسطوفان جمع في شخص سقراط خصائص الطبيعيين والسوفسطائيين، وقد يكون خدع في ذلك لما أراد أن يهجو الجماعة المتفلسفة المبتدعة؛ لما كان من مشابهة ظاهرة بين أسلوب سقراط وأسلوب السوفسطائيين يجادل مثلهم ويخوض مسائلهم، بحيث لم يكن من الميسور تمييزه منهم إلا للمقربين إليه الواقفين على آرائه، فاختاره بطلًا لروايته؛ لشهرته عند الأثينيين وغرابة هيئته، ورآه أدعى المتفلسفين لتكوين شخص رواية هزلية وإسقاط الجماعة الذين يمثلهم، وقد يكون سقراط امتحنه فيمن امتحن وأفحمه أمام الجمهور، فأراد هو أن ينتقم لنفسه ولزملائه، وأن يوقع بهذا الخصم العنيد، ومهما يكن من الباعث له فإن روايته لم تصادف إقبالًا ولم تلحق أي أذى بسقراط.
ب - وبعد ذلك بثلاث وعشرين سنة (٣٩٩) أخذ ثلاثة على أنفسهم [70]أن يبعثوا اتهامه وأن يؤيدوه أمام القضاء، فتقدموا بعريضة يدعون فيها «أنه ينكر آلهة المدينة ويقول بغيرهم ويفسد الشباب» ويطلبون الإعدام عقابًا له، هؤلاء الثلاثة هم: أنيتوس أحد رءوس الصناعة وزعماء الديمقراطية، وملاتوس شاعر شاب خامل، وليقون خطيب لا بأس به، أقام الدعوى ملاتوس وانضم إليه ووقع على عريضته الاثنان الآخران، ولكن المحرك الأصلي أنيتوس، أغرى صاحبيه بالمال واستغل حفيظتهما فإنه كان أقدر منهما على التأثير في سير الدعوى، فأسباب الاتهام شخصية وسياسية؛ لأن سقراط علاوة على تسفيه الشعراء والخطباء كثيرًا ما كان يحمل على النظام الديمقراطي، وينتقد ما يقوم عليه من مساواة مسرفة وقوة العدد وانتخاب بالقرعة، أما أركانه فهي أولًا: إنكار آلهة أثينا، وكان أكبر الكبائر عند الأثينيين؛ لأن كل مدينة كانت تعتبر آلهتها جزءًا لا يتجزأ من تقاليدها المقدسة، وترجع إليهم الفضل في نشوئها وحمايتها وترقيها، فالكفر بهم نكران للجميل واستنزال لغضبهم على المدينة وأهلها، ولكن سقراط كان يعتقد بالآلهة وعنايتهم، وكان يشترك في الشعائر الدينية فيلوح أن متهميه كانوا يتخذون حجة أنه فيلسوف، وقديمًا كان الفلاسفة متهمين في عقيدتهم، ثم إنهم كانوا يرمون إلى أن يستدرجوه لشرح رأيه في الآلهة فيثيروا العامة عليه. والركن الثاني من أركان الاتهام قوله بآلهة جدد، ويظهر أن المقصود به ذلك الصوت الذي كان سقراط يقول: إنه يسمعه في نفسه ينهاه عما اعتزمه من أفعال ضارة به وهو لا يدري، وكان يسميه بالروح الإلهي ولا ينسبه لإله معين. والركن الثالث إفساد الشباب؛ يقيمونه على أن سقراط يحدث تلاميذه ومستمعيه بآرائه في الآلهة، فينفرهم من الديانة الموروثة ويحضهم على التفكير الشخصي دون استناد إلى النقل والتقليد، فيضعف من طاعتهم لوالديهم ومن إخلاصهم للدولة.
[71]ج - أما المحكمة فكانت مؤلفة من محلفين اختيروا بالقرعة فيمن كانت سنهم تزيد على الثلاثين، ويظن أن عددهم كان خمسمائة واثنين فكانت المحكمة إذن جمعًا حاشدًا من النوتية والتجار، يتأثرون بالنزعات الشعبية، والتيارات الفجائية، ولا يصلحون بحال للنظر فيما ندبوا له، ودافع سقراط عن نفسه ولا نعلم ماذا قال، ولكنا إذا رجعنا إلى الدفاع الذي كتبه أفلاطون وأجرى فيه الكلام على لسان أستاذه ألفيناه يبدأ بالاعتذار من الكلام بلا تحضير ولا تنميق، ثم يذكر خصومه المتقدمين والمتأخرين فيرد أولًا على الشعراء الهزليين وبالأخص على أرسطوفان فينكر أنه اشتغل بالعلوم الطبيعية وأنه عرض للآلهة بسوء، ويعلل التحامل عليه بامتحانه المشهور، ويلتمس عذرًا لهذا الامتحان رغبته في التحقق من مراد أبولون، وينتقل إلى ملاتوس فيهزأ منه ويلقي عليه الأسئلة ويربكه، ولكنه لا يبسط معتقده الديني ولا يدحض التهمة دحضًا قاطعًا، وربما كان السبب في هذا التهرب إشفاقه على مثل هذه المسائل أن تثار أمام مثل هذه المحكمة، وتحاشيه إهاجة الجمهور على غير طائل، ويعود إلى رسالته ويقول: إن إرادة إلهية أوحت إليه أن يعظ مواطنيه ويحثهم على الصلاح وبعثته فيهم مهمازًا يحفزهم فهو نورهم وهدايتهم والمحسن إليهم بتعاليمه ونصائحه يبذلها لهم؛ ليؤدي واجبًا، ولا يبغي عرضًا من أعراض الدنيا، ويعلن إليهم أنه إذا صرف بريء الساحة فلن يغير من سيرته شيئًا، وكيف يغير وهو لا يخشى الموت، بل يؤثره على الحياة مع خيانة الواجب، وأخيرًا يفوض لهم الأمر بعد أن يذكر أنه يأبى أن يستعطفهم وأن يتنزل إلى ما يتنزل إليه غيره من ضروب الاسترحام المألوفة في المحاكم الشعبية كالبكاء والاستبكاء في حضرة الآباء والأبناء... ولم يكن هذا الشمم وهذا التحدي ليعجبا القضاة، ويقترع هؤلاء وتعلن النتيجة فإذا بالغالبية على أن سقراط مذنب، وكان القانون يخول المتهم حق مناقشة العقوبة المطلوبة [72]وتعيين العقوبة التي يرتضيها، فيستأنف سقراط الكلام ويصرح أنه لا يدهش للقرار، بل يدهش؛ لأنه صدر بغالبية ضئيلة؛ إذ كان يكفي أن ينحاز ثلاثون صوتًا منها للأقلية حتى تتساويا — فكأن الغالبية كانت ٢٨١ والأقلية ٢٢١ على تقدير أن عدد القضاة كان كما ذكرنا — ويرفض كل عقوبة؛ لأن الرضا بواحدة أيًّا كانت إقرار بالذنب وهو بريء محسن يجب أن يثاب على إحسانه، والثواب اللائق به أن يعيش في مجلس الشيوخ على نفقة الدولة، غير أن تلاميذه يلحون عليه فينتهي بأن يقبل تأدية غرامة، ويتقدم أفلاطون وبعض الأصدقاء بكفالته، ولكن القضاة كانوا قد غضبوا عليه فيقترعون فتحكم عليه بالإعدام أغلبية أعظم، فيعاود الكلام ويقول: إنه لا يأسف على شيء؛ لأنه لم يفعل ولم يقل إلا ما بدا له أنه حق، ويختم بكلمة طيبة إلى الذين اقترعوا في جانبه مؤكدًا لهم أنه مغتبط بالموت، وأنه لا يعتبر الموت شرًّا بل يرى فيه الخير كل الخير، سواء افترضناه سباتًا أبديًّا، أم بعثًا لحياة جديدة.[9]
د - وكانت أثينا ترسل كل سنة حجيجًا إلى معبد أبولون في جزيرة ديلوس، فاتفق أن كلل مؤخر المركب في اليوم السابق على صدور الحكم، وكان قانونًا مرعيًّا أن لا تدنس المدينة بإعدام طوال زمن الحج، وقد استغرق تلك السنة ثلاثين يومًا، فانتظر سقراط في سجنه أوبة المركب، وكان تلاميذه يختلفون إليه كل يوم يتلاقون عند الفجر في المحكمة، فإذا ما فتح باب السجن دخلوا، وكثيرًا ما كانوا يقضون معه النهار بأكمله، وكان هو ينظم في أوقات الفراغ: فنظم أمثال إيسوب، ونشيدًا لأبولون؛ ولم يكن قد نظم الشعر قبل ذلك، وإنما نظم امتثالًا لصوت طالما سمعه في المنام،[10] وائتمر تلاميذه فهيأوا [73]له أسباب الفرار، ووفروا له وسائل العيش في تساليا، وكان الفرار مستطاعًا، وكان العرف يعذر الفار في مثل هذه الحال، ولكنه أبى أن يهرب كالعبيد، وأن يخرج على قوانين بلاده، والقوانين سياج الدولة، في ظلها ينشأ الأفراد ويحيون؛ فإن كان الأثينيون قد ظلموه فبأي حق يستهين هو بالقوانين ويظلمها؟ ثم كيف يهرب وهو لم يغادر أثينا قط إلا للحرب دونها؟ وهو أينما يذهب سيثابر على خطته من الوعظ والتأنيب وإلا ضاع لديه كل معنى للحياة وأغضب الإله، فهل يكون الأجانب أوسع صدرًا من مواطنيه؟[11]
ه - ولما عادت المركب وحل الجل بكر التلاميذ ما خلا أفلاطون فقد كان مريضًا، وجاء بعض الفيثاغوريين فأدخلوا عليه فوجدوا زوجته جالسة بجانبه تحمل ابنهما الصغير، فلما وقع نظرها عليهم أخذت تنتحب وتندب فأمر أن تصرف إلى المنزل، فأخذها بعض الخدم وهي تصيح وتضرب صدرها،[12] وجلس إليه مريدوه، وكان هو سعيدًا، وكان شيء من هذه السعادة ينتقل إلى نفوسهم فيتحدثون معه على عادتهم ويضحكون ثم يفكرون في موته فيبكون ثم يستأنفون الحديث وهكذا،[13] وكان معظم حديثهم في خلود النفس حتى إذا ما تقدم النهار قام فاستحم ليكفي النساء مئونة إحمام جثة هامدة؛ فلما رجع أدخل عليه قريباته ومعهن أولاده الثلاثة فكلمهم ثم صرفهم، ولما آذنت الشمس بالمغيب دخل السجان وأبلغه دنو الساعة وأثنى على خلقه وبكى — وكان الغروب ميعاد الإعدام عندهم — فأمر سقراط بالسم فأحضر له مسحوقًا في كاس فتناولها بثبات ودعا الآلهة أن يوفقوه في هذا الرحيل من العالم الفاني إلى العالم الباقي، [74]وشرب الكأس حتى النهاية دون تردد ولا اشمئزاز، وأجهش التلاميذ بالبكاء فانتهرهم وأخذ يتمشى حتى إذا ما أحس بثقل رجليه استلقى على ظهره كما أوصاه صاحب السم، وأخذت البرودة تغشى جسمه من أسفل إلى أعلى فيفقد الإحساس شيئًا فشيئًا حتى بلغت القلب فاعترته رجفة فأطبق أقريطون فمه وعينيه.[14]
* * *
و - «ولما ضرب الراعي تشتتت الخراف»، ونقصد بهذه الخراف على الخصوص النابهين من تلاميذه؛ فشخص إقليدس إلى ميغاري وأنشأ المدرسة الميغارية، ولحق به أفلاطون وقضى معه زمنًا غير يسير، ورحل أرستبوس إلى صقلية ثم عاد إلى وطنه قورينا[15] وأنشأ المدرسة القورينائية، وأسس أنتستان في أثينا المدرسة الكلبية، وكان لهذه المدارس شأن، ولكنا نرجئ الكلام عليها إلى الدور الثالث؛ لأنها متصلة به، شبيهة بمدارسه.
هي الآن قرية صغيرة تدعى قرنة في بلاد برقة (طرابلس الغرب). تصنيف:
مدرسة أفلاطون (الباب الثاني) ومدارس «صغار السقراطيين» (الفصل الأول من الباب الرابع).
انظر فيما بعد عدد (٢٩–ب)، و(٣٠–أ).
انظر فيما بعد عدد (٤٠–ج).
انظر أفلاطون: «احتجاج سقراط على أهل أثينا».
أفلاطون: «الجمهورية» م١ ص٣٣٧ (أ).
أفلاطون: «تيتياتوس» ص١٤٩–١٥٢.
أرسطو: ما بعد الطبيعة م١ ف٦ ص٩٨٧ ع ب س١–٤ وم١٣ ف٤ ص١٠٧٨ ع ب س١٦–٣٠ باختصار.
أرسطو: في الموضعين المتقدمين.
أفلاطون: «احتجاج سقراط على أهل أثينا».
أفلاطون: «فيدون» ص٥٨–٦١.
أفلاطون: «أقريطون».
أفلاطون: «فيدون» ص٦٠ (أ).
أفلاطون: «فيدون» ص٥٨ (أ)–٥٩.
«فيدون» ص١١٦–١١٨.
======
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني 
  المؤلف: يوسف كرمحياته ومصنفاته
[75]
الباب الثاني
أفلاطون
الفصول (غير مدرج في الأصل)
الفصل الأول: حياته ومصنفاته
الفصل الثاني: المعرفة
الفصل الثالث: الوجود
الفصل الرابع: الأخلاق
الفصل الخامس: السياسة =====
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/حياته ومصنفاته
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)‏ | الباب الثاني
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الباب الثاني:أفلاطون حياته ومصنفاته أفلاطون
المؤلف: يوسف كرمالمعرفة
[75]

الفصل الأول
حياته ومصنفاته
٢٨ – حياته
أ – ولد أفلاطون في أثينا أو في أجينا — أهم مدن الجزيرة المسماة بهذا الاسم — سنة ٤٢٧ق.م في أسرة عريقة الحسب كان لبعض أفرادها المقام الأول في الحزب الأرستقراطي وشأن كبير في السياسة الأثينية، تثقف كأحسن ما يتثقف أبناء طبقته، وقرأ شعراء اليونان وعلى الخصوص هوميروس، ونظم الشعر التمثيلي وأقبل بعد ذلك على العلوم، وأظهر ميله خاصًّا للرياضيات، ثم تتلمذ لأقراطيلوس أحد أتباع هرقليطس واطلع على كتب الفلاسفة، وكانت متداولة في الأوساط العلمية، وفي سن العشرين تعرف إلى سقراط، ذهب به إليه شقيقاه الأكبران أديمنت وأغلوقون — وهما محدثا سقراط في «الجمهورية» — وبعض أقربائه، وكان هؤلاء يختلفون إلى سقراط وإلى السوفسطائيين ورائدهم الاستطلاع واللهو بالجدل، ولكن أفلاطون أعجب بفضل سقراط فلزمه، وما كاد يبلغ الثالثة والعشرين حتى أراد نفر من أهله وأصدقائه — وقد اغتصبوا الحكم بمساعدة اسبرطة — أن يقلدوه أعمالًا تناسبه فآثر الانتظار، وطغى الأرستقراطيون وبغوا وأمعنوا في [76]خصومهم نفيًا وتقتيلًا وصادروا ممتلكاتهم، ثم انقسموا على أنفسهم فملئُوا المدينة فسادًا وملئُوا قلبه غمًّا، ولما هزمهم الشعب وقامت الديمقراطية أنصفت بعض الشيء فأحس رغبة في السياسة يبغي المعاونة على تأييد العدالة وتوفير السعادة، ولكن الديموقراطية أعدمت سقراط، فيئس أفلاطون من السياسة وأيقن أن الحكومة العادلة لا ترتجل ارتجالًا، وإنما يجب التمهيد لها بالتربية والتعليم[1]. فقضى حياته يفكر في السياسة ويمهد لها بالفلسفة، ولم تكن له قط مشاركة عملية فيها.
ب – وداخله من الحزن والسخط لممات معلمه ما دفعه إلى مغادرة أثينا، فقصد إلى ميغاري حيث كان بعض إخوانه قد سبقوه والتفوا حول إقليدس أكبرهم سنًّا، مكث هناك نحو ثلاث سنين ثم سافر إلى مصر (وهو يذكرها في غير ما موضع من كتبه ولا سيما «الجمهورية» و«القوانين» ذِكْرَ مَنْ عرفها معرفة شخصية) وانتهز الفرصة فذهب إلى قورينا لزيارة عالمها الرياضي تيودوروس ومدرسته، وعاد إلى مصر فقضى زمنًا في عين شمس واتصل بمدرستها الكهنوتية، وأخذ بنصيب من علم الفلك، ولا بد أن يكون قد استفاد أيضًا بملاحظة الديانة والحكم والأخلاق والتقاليد فإن في مؤلفاته الشواهد العديدة على ذلك، ونشبت بين اسبرطة وأثينا الحرب المعروفة بحرب قورنتية سنة ٣٩٥ وحالف نفريتس ملك مصر السفلى اسبرطة، فاضطر أفلاطون لمغادرة مصر، وأقام في بلده طول الحرب أي إلى سنة ٣٨٨ متوفرًا على الدرس ناشرًا من المحاورات ما أثار إعجاب الأثينيين، ولما انتهت الحرب رحل إلى جنوبي إيطاليا يقصد في الأرجح إلى الوقوف على المذهب الفيثاغوري في منبته؛ وكان قد شغف به، فنزل ترنتا وزار رئيس جمهوريتها القائد أرخيتاس، وكان فيثاغوريًّا مذكورًا وتوثقت بينهما روابط الصداقة. وفيما [77]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/83 [78]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/84 [79]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/85 [80]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/86 [81]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/87 [82]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/88 [83]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/89
انظر الرسالة السابعة في مجموعة رسائله ص٣٢٤–٣٢٦.
====
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/المعرفة
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)‏ | الباب الثاني
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
حياته ومصنفاته المعرفة أفلاطون
المؤلف: يوسف كرمالوجود
[84]

الفصل الثاني
المعرفة
٣١– الجدل الصاعد
أ – لم يكن إيثارُ أفلاطونَ للحوارِ عبثًا أو إرضاءً لنزوعه الأول للقصص التمثيلي، ولكن معاصر السوفسطائيين وتلميذ سقراط تأثر بالجدل واعتقد مع أستاذه أن الحوار بمرحلتيه (٢٦–أ) هو الطريق الوحيد للبحث في الفلسفة، فاصطنع الجدل وتحدى السوفسطائيين؛ فنقل اللفظ من معنى المناقشة المموهة إلى معنى المناقشة المخلصة التي تولد العلم، وهي مناقشة بين اثنين أو أكثر أو مناقشة النفس لنفسها، بل ذهب إلى أبعد من هذا فأطلق اللفظ على العلم الأعلى الذي ليس بعده مناقشة، وحد الجدل بأنه المنهج الذي يرتفع العقل به من المحسوس إلى المعقول لا يستخدم شيئًا حسيًّا، بل ينتقل من معانٍ إلى معانٍ بواسطة معانٍ،[1] ثم بأنه العلم الكلي بالمبادئ الأولى والأمور الدائمة يصل إليه العقل بعد العلوم الجزئية، فينزل منه إلى هذه العلوم يربطها بمبادئها، وإلى المحسوسات يفسرها، فالجدل منهج وعلم يجتاز جميع مراتب الوجود من أسفل إلى أعلى وبالعكس،[2] ومن حيث هو علم فهو يقابل ما نسميه الآن نظرية المعرفة بمعنى واسع يشمل المنطق والميتافيزيقا جميعًا.
ب – وأفلاطون أول فيلسوف بحث مسألة المعرفة لذاتها، وأفاض فيها من جميع جهاتها، وجد نفسه بين رأيين متعارضين: رأي بروتاغوراس وأقراطيلوس [85]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/91 [86]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/92 [87]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/93 [88]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/94 [89]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/95 [90]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/96 [91]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/97 [92]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/98 [93]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/99 [94]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/100 [95]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/101 [96]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/102 [97]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/103
الجمهورية ص٥١١ (ب).
الجمهورية ص٥٣٣ (ج).
=======
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/الوجود
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)‏ | الباب الثاني
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
المعرفة الوجود أفلاطون
المؤلف: يوسف كرمالأخلاق
[98]

الفصل الثالث
الوجود
٣٤ – الله
أ – نظرية أفلاطون في الوجود مماثلة لنظريته في المعرفة بمعنى أنها تصعد من المحسوس إلى المعقول وتخضع الأول للثاني، وقد قص حكاية حاله بإزاء العلم الطبيعي فقال ما خلاصته (بلسان سقراط): لما كنت شابًّا كثيرًا ما قاسيت الأمرَّيْنِ في معالجة المسائل الطبيعية بالمادة وحدها على طريقة القدماء. وسمعت ذات يوم قارئًا يقرأ في كتاب لأنكساغورس «هو العقل الذي رتب الكل وهو علة الأشياء جميعًا» ففرحت لمثل هذه العلة وتناولت الكتاب بشغف، ولكني ألفيت صاحبه لا يضيف للعقل أي شأن في العلل الجزئية لنظام الأشياء، بل بالضد يذكر في هذا الصدد أفعال الهواء والأثير والماء وما إليها، مثله مثل رجل يبدأ بأن يقول إن سقراط في جميع أفعاله يفعل بعقله ثم يعلل جلوسي هنا (في السجن) بحركات عظامي وعضلاتي، ويعلل حديثي بفعل الأصوات والهواء والسمع وما أشبه، ولا يعنى بذكر العلل الحقة وهي: لما كان الأثينيون قد رأوا أحسن أن يحكموا عليَّ، ورأيت أنا أحسن؛ أي أقرب إلى العدالة أن أتحمل القصاص الذي فرضوا عليَّ، فقد بقيت في هذا المكان، ولولا ذلك لكانت عظامي وعضلاتي منذ زمن طويل في ميغاري أو في بويتيا حيث كان قد حملها تصور آخر للأحسن، فتسمية مثل هذه الأشياء عللًا منتهى الضلالة. أما إن قيل: لولا العضلات والعظام فلست أستطيع تحقيق أغراضي فهذا صحيح، وعلى ذلك فما هو [99]علة حقًّا شيء، وما بدونه لا تصير العلة علة شيء آخر.١ والعلة الحقة عاقلة تلحظ معلولها قبل وقوعه وترتب الوسائل إليه، فإن شيئًا لا يفعل إلا إذا قصد — أو قُصد به — إلى غاية، والغاية لا تتمثل إلا في العقل، وعند هذه الصخرة يتحطم كل مذهب آلي، ولما كان «الموجود الوحيد الكفء للحصول على العقل هو النفس،٢ كانت العلل العاقلة نفوسًا تتحرك حركة ذاتية، وكانت المادة شرطًا لفعلها أو علة ثانوية خلوًا من العقل تتحرك حركة قسرية وتعمل اتفافًا، إلا أن تستخدمها العلل العاقلة وسيلة وموضوعًا وتوجهها إلى أغراضها،٣ والنفس غير منظورة بينما العناصر والأجسام جميعًا منظورة،٤ فيبلغ أفلاطون من هذا الطريق إلى عالم معقول يصفه بأنه إلهي؛ لاشتراكه في الروحية والعقل، ولكنه يعين فيه مراتب ويضع في قمته الله.
(ب) يبرهن أفلاطون على وجود الله من الوجهتين المتقدمتين: وجهة الحركة ووجهة النظام، فمن الوجهة الأولى يقرر أن الحركات سبع: حركة دائرية، وحركة من يمين إلى يسار، ومن يسار إلى يمين، ومن أمام إلى خلف، ومن خلف إلى أمام، ومن أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، وحركة العالم دائرية منظمة لا يستطيعها العالم بذاته، فهي معلولة لعلة عاقلة، وهذه العلة هي الله أعطى العالم حركة دائرية على نفسه وحرمه الحركات الست الأخرى وهي طبيعية، فمنعه من أن يجري بها على غير هدى.٥ ومن الوجهة الثانية يقول: إن العالم آية فنية غاية في الجمال، ولا يمكن أن يكون النظام البادي فيما بين الأشياء بالإجمال [100]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/106 [101]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/107 [102]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/108 [103]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/109 [104]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/110 [105]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/111 [106]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/112 [107]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/113 [108]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/114 [109]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/115 [110]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/116 [111]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/117 [112]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/118 [113]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/119 [114]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/120
=====
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/الأخلاق
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)‏ | الباب الثاني
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الوجود الأخلاق أفلاطون
المؤلف: يوسف كرمالسياسة
[115]
الفصل الرابع
الأخلاق
٣٧ – القانون الخلقي والطبيعة
أ – لما كان أفلاطون قد ميز بين العقل والحس والنفس والجسم؛ فقد ميز في الأخلاق بين اللذة والألم من جهة، والفضيلة والرذيلة من جهة أخرى، وكما أنه حارب الحسيين في المعرفة، والآليين في الطبيعة؛ فقد أعلن الحرب على السوفسطائيين وتلاميذهم القائلين باللذة، عرض نظريتهم في أقوى صورها وأبعد نتائجها ثم فندها تفنيدًا،[1] قالوا: إن القانون الخلقي الذي يخشاه الناس إنما هو من وضع الناس كالقانون المدني لا من وضع الطبيعة، بل إن الطبيعة تعارضه وتأباه: فبحسب الطبيعة الأمر الأقبح هو الأخسر، والأخسر تحمل الظلم، وبحسب القانون ارتكاب الظلم هو الأخسر الأقبح، ولقد نشأ هذا التباين من أن القانون سنه الضعفاء والسواد الأعظم بالإضافة إلى مصلحتهم الخاصة، فقصدوا إلى تخويف الأقوياء وصدهم عن التفوق عليهم، وذهبوا إلى أن الظلم يقوم بالذات في إرادة التسامي على الآخرين، ولكن الطبيعة تقدم الدليل على أن العدالة الصحيحة تقضي بأن يتفوق الأحسن الأقدر، فترينا أن هذا هو الواقع في كل موطن: في الحيوان والإنسان، في الأسر والمدن، وأن علامة العدالة سيادة القوي على الضعيف، وإذعان الضعيف لهذه السيادة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الكل يطلب السعادة، فكيف يستطيع أن يعيش سعيدًا من يخضع لأي [116]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/122 [117]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/123 [118]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/124 [119]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/125 [120]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/126 [121]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/127 [122]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/128 [123]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/129
انظر في «غورغياس» القسم الثالث بأكمله، وفي «الجمهورية» م١ و٢ و٩.
====
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثاني/السياسة
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)‏ | الباب الثاني
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الأخلاق السياسة أفلاطون
المؤلف: يوسف كرمالباب الثالث: أرسطوطاليس
[124]
الفصل الخامس
السياسة
٤٠ – المدينة الفاضلة
أ – السياسة عند أفلاطون العدالة في المدينة، كما أن الفضيلة العدالة في الفرد؛ لذلك يفتتح القول في «الجمهورية» بالرد على السوفسطائيين والبرهنة على أن العدالة قائمة على الطبيعة لا على العرف، وغرضه أن يبني مدينته على أساس من العدالة متين، ثم ينظر في الاجتماع فيقرر أنه ظاهرة طبيعية ناشئة من تعدد حاجات الفرد وعجزه عن قضائها وحده، تألف الناس أولًا جماعات صغيرة تعاونت على توفير المأكل والمسكن والملبس، ثم تزايد العدد حتى ألفوا مدينة، فلم تستطع أن تكفي نفسها بنفسها، فلجأت للتجارة والملاحة، هذه المدينة الأولى مدينة الفطرة، مثال البراءة السعيدة، ليس لها من حاجات إلا الضرورية وهي قليلة ترضيها بلا عناء، يقنع أهلها بالشعير والقمح والخضر والثمار والخمر الخفيفة فيعيشون عيشة سليمة ويعمرون، لا يعرفون الفاقة ولا الحرب. ولكن هذا العصر الذهبي انقضى يوم فطن الناس إلى جمال الترف والفن فنبتت فيهم حاجات جديدة واستحدثوا صناعاتٍ لإرضائها، وضاقت الأرض بمن عليها، فنشبت الحروب وتألفت الجيوش، هذه المدينة الثانية هي المدينة المتحضرة وهي عسكرية، فعلى أية صورة نبني مدينتنا لنحقق فيها العدالة؟ يجب أن نشخص بأبصارنا إلى «المدينة بالذات»: نجد أن بينها وبين النفس شبهًا قويًّا، فإن للمدينة ثلاث وظائف: الإدارة والدفاع والإنتاج، تقابل قوى النفس الثلاث: الناطقة والغضبية [125]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/131 [126]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/132 [127]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/133 [128]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/134 [129]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/135 [130]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/136 [131]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/137 [132]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/138 [133]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/139 [134]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/140 [135]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/141 [136]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/142 [137]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/143 [138]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/144 [139]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/145 [140]صفحة:تاريخ الفلسفة اليونانية (1936) يوسف كرم.pdf/146
==
تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)/الباب الثالث
< تاريخ الفلسفة اليونانية (1936)
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الباب الثاني: أفلاطون
السياسة * الباب الثالث: أرسطوطاليس
المؤلف: يوسف كرمحياته ومصنفاته
[141]
الباب الثالث
أرسطوطاليس
الفصول (غير مدرج في الأصل)
الفصل الأول: حياته ومصنفاته
الفصل الثاني: المنطق
الفصل الثالث: الطبيعة
الفصل الرابع: النفس
الفصل الخامس: ما بعد الطبيعة
الفصل السادس: الأخلاق

الفصل السابع: السياسة
=====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ب واقي

اضغط الرابط لتفتح الدرايف